في سنة 1968 قرر الرئيس الامريكي انذاك ليندن جونسون أن لا يتقدم لمأمورية رئاسية ثانية له كامل الحق في التقدم لها ووافر الحظ بالفوز بها ..وهكذا أفلت من فخ أزمات رآها تطل براسها من وراء الدعاية له والدعاية لقدراته الخارقة على تصحيح الاختلالات ..وهي نفسها الأزمات التي ٱطاحت بخلفه ريتشارد نيكسون ودفعته الى التنحي مرغما ..
ربما لن يجد أحد تفسيرا منطقيا لنجاة ليندن جونسون من نهاية سيئة لفترة حكمه كرئيس للولايات المتحدة منتصف الستينات، كما أنه بالقدر ذاته لن يجد مبررا منطقيا لصعوده فجأة إلى سدة الحكم .. والحقيقة أن الذين لا يؤمنون بالحظ عليهم أن يفسروا هذه الفجوة السحرية في منطق الصعود التي تحمل ريحها رجالا دون جهد منهم ولا تخطيط إلى الرئاسة ، ثم تسحبهم منها بعد ذلك بهدوء قبل أن تهب عواصف النقمة و السخط عليهم بسبب الظروف والأوضاع التي تقود إليها سياساتهم ..وهذا هو بالضبط ما حدث للرئيس الأمريكي ليندن جونسون سنة 1968 حين قرر فجأة أن لا يتقدم لمأمورية ثانية ،له كامل الحق في التقدم لها، ووافر الحظ بالفوز بها..
ولابد من الاعتراف مسبقا أن سيرة هذا الرجل هي من السير المطمورة في تاريخ الرؤساء الأمريكيين فقد غطت عليه شهرة رئيسين شهيرين جاء أحدهما قبله وجاء الاخر بعده ، إلا أن فترة حكمه مع ذلك، تمثل تجربة إنسانية لافتة قد تفيد، أو على الأقل تعني شيئا لبعض الناس ، فحوادث التاريخ أحيانا هي خير ملهم وخير مرشد وأنيس.
وللتذكير، أو للعلم لمن لا يعرف، فإن الرئيس ليندن جونسون هو الرئيس الذي جاء بعد جون كندي وقبل ريتشارد نيكسون ، أي أنه حكم - ولهذا دلالته البالغة – في فترة بالغة الحرج في تاريخ بلده وحتى في تاريخ العالم، فجون كندي قتل كما هو معلوم في ظروف غامضة لم تتكشف إلى حد اللحظة حقيقتها الكاملة، أما نيكسون فقد أجبر في حملة صاخبة ضد سياساته على التنحي، وإذن فما بين القتل والعزل جاءت حقبة ليندن جونسون ، وكأنها حقبة تسللت من فجوة في الزمن أو كما يقال في غفلة من التاريخ ، ولكنها كانت فترة ضرام شعبي وعرقي و صراعات وسعار شبابي في أوج ما عرف بثورة الإعلام المرئي أو ثورة التلفزيون ..
اختاره جون كندي نائبا له بعد فوزه بالانتخابات بالرغم من أنه لم تكن له كفاءات أو تحالفات كبيرة تذكر، إلا أنه كان يتمتع بصفات هامة تصلح لوظيفة نائب الرئيس، أولها أنه لم يكن طموحا، ثانيا أنه كان تصالحيا لا يميل لرأي، ولا يتشبث بفكرة عن أخرى، أما الصفة الأهم من بين كل صفاته فهي الحظ.. كان حظه يكسر الصخر، وقد كان له هو شخصيا تفسير طريف لتبرير وصوله للسلطة بعد موت كندي حيث قال " لقد أدركت أن مهمة نائب الرئيس الحقيقية هي أن يكون قادرا على التنفس حين يتم التأكد من أن الرئيس قد لفظ أنفاسه الأخيرة"
هذا هو المجهود الجوهري الذي بذله ليندن جونسون تقريبا في سبيل الوصول إلى السلطة، حسب رأيه.
ثم ابتسم له الحظ ثانية مع توليه للسلطة، فقد قام الدوما الحزب الشيوعي الحاكم في الاتحاد السوفياتي في أكتوبر 1964بالتصويت على تنحية الرئيس السوفياتي العنيد نيكيتا خروتشوف الذي أرق حكومة جون كندي بتحديه واستفزازاته المتكررة، ليتولى رئاسة الاتحاد السوفياتي بدلا منه مجلس رئاسي بقيادة رجل هادئ وبلا مشاكسات هو ليونيد ابريجنيف مما أعطى لليندن جونسون فسحة من الوقت و الارتياح مكنته من التفرغ ما أمكن لحياته الخاصة وحتى لمغامراته العاطفية التي اشتهر بها.
ويحسب لليندن جونسون مع ذلك برنامج مساعدات اجتماعي ضخم ترك بصمات واضحة على حياة الأمريكيين و عرف بمشروع المجتمع الكبير وهو برنامج يشمل مساعدات كبيرة للفقراء ومحاربة للأوبئة وتركيز على المدن المتخلفة وبرامج حضرية تشمل حتى تجميل البنايات وتطوير الأحياء.
والواقع أن برامج المساعدات الاجتماعية هي فكرة يلجأ إليها أحيانا القادة الذين يكرهون التعقيدات ووضع الخطط و متابعة الملفات اليومية فيلجؤون عادة إلى شيء بسيط ليس عليه خلاف وهو التقسيم ففيه راحة للضمير ومفتاح للدخول على الأقل في سجال الإصلاح إن لم يكن في سجله..
ومع ذلك وإنصافا لتاريخ سلفه جون كندي، فإن أول رئيس أمريكي بل ربما أول رئيس غربي بدأ البرامج الاجتماعية ومساعدات الفقراء هو جون كندي الذي رغم قصر فترته، إلا أن شهرته في هذا المجال قد غطت الآفاق، حتى أطلق اسمه على المنتوجات الغذائية المرسلة كمساعدات، من سمن وحليب ودقيق، ولا يزال الكثير منا في هذا البلد يتذكر "دهن كندي " ولبن كندي " حتى إن السلطات في عهد المختار ول داداه أطلقت اسمه على أحد شوارع العاصمة، وهو أمر غريب أن يطلق اسم رئيس أمريكي على شارع في بلد إسلامي، ولكنه كان عرفانا وشكرا على مساعدات حقيقية وذات قيمة عالية أنقذت آلاف الأطفال في الستينات من الموت...
واجه جونسون في أواخر فترة رئاسته الأولى احتقانا شعبيا كبيرا وقلاقل ومظاهرات بسبب الأوضاع المعيشية والمظاهرات الحقوقية التي بلغت أوجها مع اغتيال القس مارتن لوثر كينغ إلى جانب مشاكل الحرب في فئتنام، و مع ذلك فقد كان مرجوا أن يتمكن من تسوية الأوضاع وتصحيح الأمور في مأموريته الثانية وكان مناصرو فكرة أن الأمور ستكون احسن بعد فوزه في المأمورية الثانية كثر، وهم خليط من المقاولين الجدد والنتوءات البيروقراطية التي تكاثرت في خضم وفرة ما بعد الحرب العالمية ، ثم أصحاب الشركات ولوبيات الصناعة التي صاغت برامجها أصلا على أساس تسع سنوات جونسونية، سنة متبقية من فترة كندي وفترتان رئاسيتان له هو.
ومع قرب انتهاء المأمورية الأولى بدأت التحضيرات لإطلاق حملة تصحيح الاختلالات والعودة إلى الجادة، و تعالت شعارات أن لابديل عن جونسون في هذه الظروف الصعبة، وأن الامور لا تتحمل تحولا في الإدارة الآن.
ولكن الحظ ابتسم مرة ثالثة لليندن جونسون، فقد قرر في نفسه فجأة ان لا يقع في فخ تلك الدعاية، وأن يرفض التقدم لمأمورية ثانية، وهكذا، وفي الوقت الذي كان ديوانه في البيت الأبيض عاكفا على صياغة خطاب الترشح، كتب هو من بيته رسالة اعتذار عن قبول الترشح وجهها للشعب و أذيعت صباح اليوم التالي وسط ذهول الجميع، حيث جاء فيها "إنه مع وجود أبناء أمريكا في الجبهات البعيدة ومع تعرض مستقبل أمريكا لتحديات جمة في الداخل وفي الخارج ومع آمالنا وآمال العالم في السلام كل يوم وقناعتي أنني يجب أن لا أخصص في المستقبل ساعة أو يوما من وقتي لأي قضايا أو واجبات أخرى غير الواجبات الرهيبة لهذا المنصب، فإنني بناء على ذلك قررت أن لا أسعى ولا أقبل ترشيح حزبي لي لولاية أخرى رئيسا لكم "
وهكذا تراجع ليندون جونسون في لحظة تاريخية فارقة عن قبول الترشح ليدخل التاريخ ، ولو من بابه الخلفي ، إلا أنه وهذا هو الأهم أفلت من عقاب الشعب وعقوبة التاريخ التي واجهها و راح ضحية لها الرئيس الذي جاء بعده ، ريتشارد نيكسون .