كشف تقرير المراجعة الأولى والثانية لبرنامج صندوق النقد الدولي لمصر الذي أعلنه الجمعة الماضية، عن بلوغ مدفوعات خدمة الدين الخارجي لمصر من فوائد وأقساط 136.8 مليار دولار، خلال السنوات المالية الممتدة من العام المالي المقبل (2024/2025) وحتى عام 2028/2029، كما كشف عن استمرار العجز في ميزان المعاملات الجارية خلال السنوات المالية المقبلة بقيم كبيرة متزايدة.
وكشف التقرير عن قيام البنك المركزي المصري بإقراض ست هيئات حكومية، نحو 661 مليار جنيه حتى الشهر الأول من العام الحالي، رغم إصدار وثيقة ملكية الدولة بنهاية عام 2022 والتي تحدثت عن المساواة في التعامل مع الجهات الحكومية والقطاع الخاص، وقيام البنك المركزي بإلغاء مبادرات الإقراض المخفض للقطاع الخاص، ورغم قيام البنك بإجراءات أسبوعية لسحب السيولة من السوق لمواجهة التضخم.
كما أشار التقرير لتوقع بلوغ الفجوة التمويلية 28.5 مليار دولار خلال الفترة المتبقية على انتهاء برنامجه في أيلول/ سبتمبر 2026، بعد احتساب إيرادات صفقة رأس الحكمة.
كما كشف التقرير عن التزام الحكومة بتنفيذ سبعة إجراءات فقط من بين 15 إجراء تم الاتفاق عليها عند الاتفاق على البرنامج في كانون الأول/ ديسمبر 2022، ورغم ذلك فقد وافق الصندوق على زيادة قيمة قرضه لمصر من 3 مليارات إلى 8 مليارات دولار، وصرف الدفعة الثانية منه بقيمة 820 مليون دولار، وهو ما يعزز تدخل العوامل السياسية، والمرتبطة بمكافأة الدول الغربية النظام المصري لموقفه المشارك في حصار غزة وتجويع سكانها، في زيادة قرض الصندوق.
ومن بين الإجراءات التي لم تلتزم بها الإدارة المصرية؛ نشر تفاصيل الإعفاءات الضريبية، وتصنيفها سواء بالنسبة للشركات المملوكة للدولة والشركات المملوكة للجيش والشركات المشتركة التي تجمع ما بين جهات عامة وجهات خاصة، وكذلك نشر عقود المشتريات الحكومية، وتقارير جهاز المحاسبات المعني بالرقابة على الجهات الحكومية أو التي تشارك بها الحكومية بنسبة 25 في المائة فأكثر.
المصريون يعرفون اقتصادهم من الصندوق
ولم يذكر تقرير الصندوق ما يخص الشفافية عدم التزام الحكومة بما تم الاتفاق معها لنشر البيانات المالية للشركات التابعة لها وشركات الجيش، بل إن اتفاق مصر مع الصندوق الذي تم في ديسمبر 2022 لم يُنشر نصه في الجريدة الرسمية حتى الآن.
وهكذا أصبح المصريون يعرفون أرقام حصيلة طروحات الحكومة من الشركات التي تملكها من بيانات الصندوق، وكذلك معرفة قيمة الدين العام والذي امتنعت الحكومة المصرية عن نشره منذ منتصف 2020، وتمويل البنك المركزي لهيئات عامة، لكن الصندوق شارك الحكومة المصرية التعتيم في نواح أخرى، حين أغفل نشر بيانات الفقر والبطالة وأسعار الصرف المتوقعة خلال السنوات المقبلة.
وقبل أن نتناول توقعات الصندوق لأداء كل من ميزان المدفوعات والموازنة المصرية في السنوات المالية الخمس المقبلة، نشير إلى أن توقعات الصندوق التي نشرها مسبقا خاصة في يناير 2023 لم تتحقق، ومثل ذلك حدث عام 2016، إلى جانب ملاحظة إفراط توقعات الصندوق في التفاؤل وإغفال المتغيرات الدولية التي يمكن أن تحول دون تحقق تلك التوقعات خلال خمس سنوات، وكذلك الأوضاع الداخلية والانسداد السياسي والقبضة البوليسية والهيمنة الحكومية على الأسواق، والخروج المُكثف للقطاع الخاص للعمل في الخارج، واستبعاد قدوم الاستثمار الأجنبي المباشر لمصر قبل أن يعود القطاع الخاص المصري إليها.
وفيما يخص مكونات ميزان المدفوعات الذي يقيس موارد ومدفوعات النقد الأجنبي، فقد توقع للسنوات المالية الخمس المقبلة استمرار زيادة الصادرات السلعية، وفي نفس الوقت استمرار الواردات السلعية بوتيرة أكبر، مما نشأ عنه استمرار تزايد العجز التجاري السلعي المتوقع. وجاءت توقعات زيادة الصادرات بأرقام تقل كثيرا عما أعلنته الحكومة من مستهدفات لذلك، خاصة صادرات النفط والغاز الطبيعي واللذين شهدا تراجعا بالإنتاج المحلي لهما، وتزايدا في الاستهلاك المحلي لهما في نفس الوقت.
وفي التجارة الخدمية، توقع الصندوق استمرار الفائض الخدمي بسبب إيرادات السياحة وقناة السويس وتزايده في السنوات الخمس، لكنه فائض يقل كثيرا عن العجز التجاري السلعي، مما أسفر عن عجز مستمر في ميزان السلع والخدمات، يرافقه عجز في ميزان الدخل الأولي نتيجة زيادة مدفوعات الفوائد للخارج وعدم توقع معونات رسمية لمصر، ولم تفلح تحويلات العمالة المصرية في الخارج المتوقع تزايدها في سد العجز، ليسفر الأمر عن استمرار العجز في ميزان المعاملات الجارية.
تفاؤل مفرط بتوقع تراجع الدين الخارجي
ورغم توقع تحقيق الحساب الرأسمالي والمالي فائضا مستمرا في السنوات الخمس، يساهم في سد العجز بميزان المعاملات الجارية، بسبب توقعات تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر، وتدفقات استثمارات الحافظة للاستفادة من الفائدة المرتفعة على أدوات الدين الحكومي، إلا أن توقعات تدفقات الاستثمار المباشر لم تكن كبيرة، وكذلك توقعات استثمارات الحافظة التي تقل كثيرا عما حدث عام 2017 بعد اتفاق برنامج الإصلاح السابق أواخر 2016.
ومن المؤشرات عالية التفاؤل توقع الصندوق حدوث تراجع بطيء ومحدود ومستمر في الدين الخارجي في السنوات الخمس المقبلة، وهو أمر يتنافى مع مسلك الحكومة التي تشارك في أي جهة من شأنها منح قروض، وسعي وزارة المالية للمزيد من إصدارات السندات والصكوك الخارجية، وفشل إعلان الحكومة عن وضع سقف للدين الخارجي قبل سنوات، وغياب أية رقابة برلمانية يمكن أن تتصدى للنهم الحكومي المستمر للاقتراض والدخول في مشروعات غير ذات أولوية.
واستمر تفاؤل الصندوق المفرط بزيادة مستمرة في الاحتياطيات من العملات الأجنبية، وهو ما يتعارض مع ما ذكره من تكلفة للدين الخارجي من فوائد وأقساط تبلغ 36.1 مليار دولار في العام المالي المقبل، و30.1 مليار دولار في العام الذي يليه، و23.9 مليار دولار في العام المالي 2026/2027، و23.5 مليار دولار بعد أربع سنوات، و23.2 مليار دولار بعد خمس سنوات مالية.
أفرط في التفاؤل حين توقع تراجع النصيب النسبي لفوائد الدين الحكومي من مجمل المصروفات، من 51 في المائة في العام المالي المقبل حتى تصل إلى 35 في المائة بعد خمس سنوات مالية
أما عن الموازنة المصرية المتوقعة فقد توقع زيادة مستمرة في الإيرادات، نتيجة الزيادة المستمرة بحصيلة الضرائب سواء ضرائب الدخل أو القيمة المضافة أو الجمارك أو الإيرادات غير الضريبية، لكنه توقع أيضا على نفس المنوال زيادة في المصروفات في السنوات الخمس المقبلة، ليستمر معها العجز في الموازنة والذي يتوقع ارتفاع نسبته في العام المالي المقبل، ثم تراجعه التدريجي لنسب غير مسبوقة منذ عقود. وهو ما لا نتفق معه في ظل بيانات الدين العام التي نشرها التقرير نفسه، والزيادات المستمرة فيه من 9.981 تريليون جنيه في العام المالي الأخير، إلى 13.725 تريليون جنيه في العام المالي الحالي، حتى يصل إلى 20.2 تريليون جنيه بعد خمس سنوات مالية.
وتضمنت توقعات الصندوق فيما يخص بنود مصروفات الموازنة، استمرار استحواذ نفقات فوائد الدين الحكومي على النصيب النسبي الأكبر من بين أبواب المصروفات الستة، يليه الدعم ثم الأجور فالاستثمارات ومصروفات الدفاع والجهات السيادية وشراء مستلزمات إدارة الجهات الحكومية، لكنه أفرط في التفاؤل حين توقع تراجع النصيب النسبي لفوائد الدين الحكومي من مجمل المصروفات، من 51 في المائة في العام المالي المقبل حتى تصل إلى 35 في المائة بعد خمس سنوات مالية.
ونفس التفاؤل المفرط لتوقعه تراجع نسبة فوائد الدين الحكومي إلى إجمالي الإيرادات في الموازنة، من 87 في المائة في العام المالي الحالي حتى تصل إلى 38 في المائة بعد خمس سنوات مالية. وبالطبع فهو يبني ذلك على توقعه انخفاض التضخم في السنوات المقبلة وبالتالي تراجع معدلات الفائدة وتكلفتها، لكن تقرير الصندوق نفسه كان توقع عودة ارتفاع العجز في ميزان المعاملات الجارية بعد انتهاء برنامجه في أيلول/ سبتمبر 2026، وما لذلك من تأثير لسعر الصرف حينذاك على عجز الموازنة وارتفاع الدين العام.
نقلا عن عربي21