كشفت تصريحات معالي الوزير الأول محمد ولد بلال على هامش الزيارات الميدانية التي قادته لمختلف الوزارات من أجل الاطلاع على تنفيذ برنامج "تعهداتي" النقاب عن تدمير ممنهج طال مفاصل الدولة حيث قال: "إن من أبرز العوائق التي تواجه حكومته التركة الثقيلة التي وجدوا أمامهم، والمتمثلة في تدمير الإدارة بشكل ممنهج خلال الحقبة الأخيرة، مضيفا أن ذلك هو ما جعل فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني ينبه في كل مرة إلى أن أكبر تحد يواجه تنفيذ "تعهداته" للشعب الموريتاني هو إصلاح الإدارة، ووضعها على السكة الصحيحة"، لذلك أصبح لزاما على الحكماء من الموريتانيين من صناع القرار، وأهل الرأي، وحملة القلم أن يبحثوا عن أنجع السبل لمواجهة هذا الداء الذي أمَضَّهُم، والتدمير الممنهج الذي استهدف وطنهم، فالخلاف حول الصواب خير من الإجماع على الخطأ، وكم نجح المفسدون في استعطاف الناس وجعلهم يقفون صفا واحدا، لكن في الموقف الخطأ، والمعركة الخطأ، وهذا هو مكمن الضعف القاتل.
ولدي قناعة راسخة بأن الفساد في موريتانيا تتحكم فيه الثقافة السائدة، والمزاج الموريتاني العام، وأن مسألة الشـفافية، والمساءلة واحترام القانون تحتاج إلى إعادة تصحيح وتوضيح وتوعية، وأن هذا المزاج مكتسب ونتاج سياق مجتمعي معين، وسيستغرق بعض الوقت، لأن مشكلة مكافحة الفساد متعلقة بالديمقراطية الحـقّة، وإنفاذ القانون، وتنفيذ الأحكام، والإطار الاجتماعي والاقتصادي "السياسات الاجتماعية والاقتصادية"، والحد الأدنى والحد الأقصى "العدالة الاجتماعية"، وأهمية التجديد الثقافي والتربوي، وترسيخ قيم الإسلام النبيلة، ومفهوم النفس اللـوامة "الضّمـيـر"، لأن الفساد على المستوى المحلي يعزى إلى السلوكيات غير المنضبطة من الموظفين، والمواطنين، ورجال الأعمال، والسياسيين، وغياب الإرادة السياسية للتعامل مع الفساد، وضعف المجتمع المدني، وعدم فاعلية وسائل الإعلام، كما أن هناك أسبابا مؤسسية تتمثل في الافتقار إلى الشفـافية، وعدم إتاحة المعلومات للمواطنين، وضعف المساءلة والعقوبات المفروضة، ومعدلات الأجور المنخفضة، وظروف العمل السـيئة، والتعيينات على غير أساس الجدارة، بالإضافة إلى ذلك، فإنه إذا لم تتم إدارة عملية اللامركزية بعناية فقد تخلق حافزا أكبر لتغليب المصلحة الخاصة على العامـة.
فقد أبان تقرير اللجنة البرلمانية عن عدم احترام الكثير من الأحكام القانونية والتنظيمية، حيث ظهر بجلاء أن العشرية الماضية شهدت خرق الكثير من القوانين واللوائح التنظيمية، وغيرها من القواعد المعيارية الآمرة، أو تطبيقها انطلاقا من تأويل متساهل وخاطئ، فكانت القواعد القانونية الأشد تضررا في هذه العشرية خصوصا منها تلك المتعلقة بإبرام وتنفيذ الصفقات العمومية التي أضرت بمواردنا المحدودة، حتى أن البعض كان يستفيد من حصوله على قطع أرضية مقابل خدمات ناقصة أو لم تكتمل في بعض الأحيان، وقد سجلت لجنة التحقيق البرلمانية أن مشاريع كبيرة ومتعددة قد انطلقت على أساس هذا النوع من العقود، منها على سبيل المثال لا الحصر مطار نواكشوط، وبناء مسجد نواكشوط الكبير، وتشييد عمارة من تسعة طوابق في العاصمة، واستصلاح ساحة للمشي في وسطها، وبناء شبكة القنوات الجافة في المنطقة العسكرية بمطار نواكشوط الدولي أم التونسي بالإضافة إلى بناء عمارات أيضا، ومما يثبت التواطؤ والنهب الممنهج أن هذه الصفقات رغم ضخامة تمويلها منحت لنفس الشركة حسب تقرير لجنة التحقيق.
أما بخصوص الشراكة بين القطاعين العام والخاص فخير دليل على عدم احترامها ما شاب الاتفاقية المتعلقة برصيف الحاويات والمحروقات في ميناء نواكشوط المستقل المعروف بميناء الصداقة، وفضلا عن الخروقات الكثيرة في ميدان المشتريات العمومية لوحظت أيضا خروقات متعددة للنصوص المنظمة لتسيير أملاك الدولة العامة، حيث تنازلت الدولة عن عقارات لصالح أفراد من المحيط الضيق للرئيس السابق.
وفي ظل هذا النهب، والتدمير الممنهج لمواردنا الاقتصادية أوصت اللجنة في تقريرها بالتوجه إلى صياغة نص تشريعي يتضمن استثناء واضحا من مدونة الصفقات العمومية بالنسبة للمشتريات الخاصة بنشاطات شركتي "سنيــم" و"صوملك" لكثرة ما شاب تسيرهما إبان العشرية المنصرمة.
كما اظهرت الوثائق الرسمية التي استند عليها تقرير لجنة التحقيق البرلمانية عن جوانب الفساد والبطر لدى بعض من وضعنا ثقتنا فيهم يوما من الأيام، مما مكنهم من إدارة شؤوننا مظهرة بجلاء عمق الازدواجية الأخلاقية التي يتخلقون بها، وبعدهم عن النزاهة، والصراحة مع مواطنيهم، وحين استشعروا الخطر وجففت منابع الفساد التي أحدثوها، بدأوا يجربون حظهم العاثر مستخدمين فزاعة الأمن لغرض تعكير جَــوِّ التهدئة السياسية الذي أرسى دعائمه فخامة رئيس الجمهورية من أول يوم استلم فيه السلطة، منهيا بذلك عهد التدابر، والتنابز بالألقاب الذي عشناه ردحا من الزمن، ويبقى أملنا كبير في أجهزتنا الأمنية لثقتنا في قدرتها على تنفيذ واجباتها على أكمل وجه بعيدا عن مروجي الإشاعات، فمن الملاحظ أنه منذ تسلم فخامة رئيس الجمهورية مقاليد السلطة لم تسجل "جريمة ضد مجهول"، مما يؤكد يقظة قوات أمننا الباسلة، وقدرتها على تنفيذ المهام الموكلة إليها، ولعل هدف من يزرعون الشكوك وينشرون الأراجيف والأكاذيب التي ظهر زيفها، وخبث طوية مروجيها مرده استشعارهم بقرب استرداد ما نهبوه من خيراتنا، وتيقنهم من استحالة التأثير على المسار القضائي الذي أراده فخامة رئيس الجمهورية خُلوًا من تدخل أي كان، تعزيزا لمسار قطعه على نفسه إحقاقا للحق، ونشرا للعدل والمساواة في بلد ظل إلى وقت قريب بعيدا كل البعد عن تحقيق مبدأ الفصل بين السلطات.
فالذين يضربون اليوم في حديد بارد بقولهم أن الدولة ضعيفة إنما يقيمون الحجة على أنفسهم، اللهم إن كان الضعف عندهم يعني غَــذُّ السير نحو معالى الأمور، والاقلاع عاليا باقتصاد كاد يقضي عليه جشعهم، وسوء تدبيرهم وتسييرهم، فقد أفلح فخامة رئيس الجمهورية في تجسيد "تعهداته" لتصبح واقعا معاشا يتفيأ المواطن ظلاله الوارفة، بوصفه متنفسا لكافة فئات مجتمعنا خصوصا الهشة منها حيث وفر لها التأمين الصحي، وتم تقسيم المعونات المادية عليها، وزيد المعاش الأساس بنسبة مائة في المئة لجميع المتقاعدين، وتمت مضاعفة معاش أرامل المتقاعدين، واستفادوا أيضا من التأمين الصحي، هذا بالإضافة إلى زيادة رواتب عمال الصحة بنسبة ثلاثين في المائة وعممت علاوة الخطر عليهم، وتم التكفل بحصص التصفية لفائدة مرضى الفشل الكلوي المعوزين بنسبة خمسين في المائة، واستفادوا من تحويلات نقدية شهرية، كما أنه ولأول مرة في تاريخ البلد يتم في كل شهر صرف تحويلات نقدية معتبرة للأطفال متعددي الإعاقات، ينضاف إلى ذلك نجاح البلد في دحر وباء كورونا الذي هدد العالم بأسره، ولولا عناية الله بأن قيض لهذا الوطن من يولي اهتماما لصحة مواطنيه، ويسعى لمصلحتهم لكانت الكارثة كبيرة، والخطب جلل.
لكن إخلاص النيات، والعمل بجد مكنا حكومتنا من تجاوز الصعاب، فكانت الجائحة محنة في طيها منحة، حيث تم تعزيز منظومتنا الصحة المترهلة حتى أصبحت تواكب المرحلة، وآتت الخطط الاستباقية أكلها حين تم الشروع في تطبيقها، كما أن شركاءنا الدوليين، استشعروا ذلك حين تيقنوا من القطيعة مع المسلكيات الماضية التي تقدم مصلحة الفرد على الدولة، وخير دليل على ذلك أن المسار التفاوضي مع "شركة تازيازت" لا يزال متواصلا لغرض إصلاح كل الاختلالات وفق ثلاثة قواعد أساسية هي: "الشفافية والثقة مع الشركاء وتثبيتها و الشراكة في المعادن بدل بيعها" من خلال اشراف وزراء "البترول والمالية والشؤون الاقتصادية" وهو ما يؤكد بسطا للسيطرة وإملاء للشروط بعيدا عن السمسرة والمآرب الشخصية، كما أن تدشين "برنامج الأولويات الموسع رقم1" وتدخلات "تآزر" المشهودة في عموم التراب الوطني، زاد الأمل وخفف منسوب الإحباط الذي تراكم جراء عدم الشفافية في التسيير إبان العشرية الماضية.
لذلك فإن حفظ الموارد، ومحاربة الفساد ومتابعة المسؤولين عنه أيا كانوا، خصوصا من وردت أسماؤهم في تقرير اللجنة البرلمانية يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه ليس في نية القائمين على الشأن العام في هذا العهد الميمون مظاهرة المفسدين، أو الدوران في فلكهم، وهو لعمري مطلب طال ما اشرأبت له أعناق الموريتانيين عامة، ومما طمأنهم على قرب تحققه تصريحات فخامته في لقائه بالصحافة وقوله: "إن دولة ينتشر فيها الفساد مهددة في مصيرها"، وتعهده -وللعهد عنده معناه- بأنه لن يتعاطف مع المفسدين، ولن يكون ظهيرا لهم، وهو ما سيضع حدا لإفلاتهم من العقاب، ويرسي ثقافة احترام المال العام، سبيلا لإحداث تنمية اقتصادية بلدنا في أمس الحاجة إليها، بعيدا عن ثقافة التربح والكسب الحرام، معيدا بذلك للدولة هيبتها، وللمال العام حرمته، ومسطرا اسمه في سجل الخالدين، ونحن على يقين بأن الله ناصره، ولن يخيب ظننا فيه، فقد عهدنا الشمس مرمى طرفه، ومضرب قبابه الجوزاء.
المهندس: الحضرمي ولد محمد ولد انـداه
رئـــــيس فــــــرع UPR بـگـــــــــرو
خــــــــــلـــــف نائــــــــــب گـــــــــــــرو