في زاوية من "إصلاح النظام التعليمي الجديد" تُدرّسُ الفلسفة بغير الفلسفة- العزة محمد الولي

ضمن مراجعة برنامج التعليم الثانوي التي "يؤرخ" لها بسنة 2020، أعتمد منهج تدريسي جديد في مادة الفلسفة، وقد كان من "سوء حظنا" تزامن دخولنا لميدان التدريس مع هذا التغيير، والآن وبعد مضي أربع سنوات من مواكبته نسجل بعض الملاحظات الضرورية، ضرورة تنسجم مع الأمانة التي قبلنا حملها بولوجنا لهذا المجال.

وكما أشرنا هي ملاحظات مخلوطة بالأسف دائما، فقد فوجئنا بعد سنوات من دراسة الفلسفة بإلزامنا بتدريس منهج لا يشبه الفلسفة في شيء، وهو ما يذكرنا بمن يُدرِّسون الفلسفة وهم ليسوا من أهل الاختصاص، وكأنه لم يكن كافيا لهذا "الدرس المسكين" أن يمارسه الدخلاء حتى يزيد الوضع تعقيدا بمنهج تدريس دخيل أيضا.. ولعلنا نختصر الطريق إلى ما نريد قوله بصور، نلفت النظر إلى أنها ليست من كتب القراءة الخاصة بالتعليم الابتدائي، إنما هي مخصصة لتلاميذ الثانوية وعلى وجه التحديد مادة الفلسفة التي يفترض فيها أن تكون أقوى صور الفكر البشري:

إن من يقدم هكذا أمثلة لا ينتظر من تلاميذه دراسة وفهم هيجل وكانط تاليا في الجامعة.. إنه عمل يستخف بعقول تلاميذ على أبواب الجامعة، ويمعن في تسخيفها وهو يعاملهم معاملة الطفولة الساذجة، فإلى جانب الأمثلة التي يراد إفهام التلميذ من خلالها هناك عنصر تمهيد الدرس:

هذا العنصر وهذا مثال عنه لا يليق بنظرنا إلا بتلاميذ صفوف الروضة، فإلى أي درجة استخف واضعوا هذا المنهج بعقول الشباب؟ إن مراهقي ما يسمى بجيل زد هم أساتذة مسبقا وفي فنون مختلفة أيضا لأنهم ولدوا في زمن طوفان المعلومات والصورة التي تزاحم أنفاسهم على كثرتها.. فهو جيل يصعب إبهاره وإقناعه ولفت نظره... وعوض السعي لكسب الرهان ضد كل من يساهم في "تعليمهم فوضويا" نجد أنفسنا أمام مناهج تقلل من شأن المدرس وشأن المادة المدروسة معا.

وإذا ما أضفنا مزيدا من حقائق هذا المنهج: نجد أنه قد اعتمد الكثير من التعريفات التي لا تتلاءم والمجال الفلسفي، فبينما كان ينتظر من واضعي هذا المنهج إيراد تحديدات وفق الاصطلاح المعجم الفلسفي، على وسعه، إلا أنه تم العمد إلى مزيد من التسطيح لفكر التلاميذ من خلال تعريفات مباشرة لا حظ لها من أي عمق فلسفي، وقد كان يفترض في الدرس الفلسفي أن يكون رافعة ترقى بفكر تلاميذها ودارسيها لا أن تساير سذاجة الفكر العامي في الواحد منهم، فلماذا هذا الإمعان في الحط من القدرات الذهنية للناشئة؟ إن لم تكن مادة الفلسفة وجبة فكرية دسمة تجبر عقول التلاميذ على التفكير إجبارا وتتحداهم فالأوْلى لها أن لا تكون.

وبعد تجربتي "التعيسة" مع هذا المنهج ومنهجيته، والتي دامت، بحمد الله على كل حال، أربع سنوات، قررت الانصراف عن تدريس الفلسفة ورفع الراية البيضاء، احتراما لنفسي أولا، وخجلا من التلاميذ وحقهم ثانيا... على أمل أن تكون هذه الراية ثورية حمراء عند زملاء آخرين يقاسمونني مرارة التجربة وتفاهتها معا.. راية حمراء في وجه من وضعوا هذا العمل ومن أقروه حتى يعاد لاسم الفلسفة مسماها، ولعلنا، أيضا، نوجه نداءً لأساتذتنا المتخصصين في التعليم العالي ليلقوا نظرة على ما يتم تدريسه لطلبتهم المستقبليين، فإما أن يشاركوا في رفض هذه "المهزلة" أو يكونوا، على الأقل، على علم ب "المجزرة المعرفية" التي يمر بها وعليها التلاميذ فلا يلومن أحد طلابه إذا ما وجدهم عاجزين عن كتابة سطرين متتاليين بفكر يليق بطالب فلسفة.

وأخيرا، وإذ تنصرف ذاتي أنا المسكينة عن تدريس مادة الفلسفة بعد قناعتها بضرورة التوقف عن تقديم درس فلسفي مغشوش، فإنها تأمل أن تجد ملاذا معرفيا في تخصص آخر ينسجم فيه الاسم مع المسمى، تخصص أمارس فيه مهنتي دون الشعور بالخجل وخداع النفس، بعد إذن أهله طبعا.