في مثل هذه الأيام من سنة 1979 كان الوطن يتماثل للشفاء من جراح كبوة العاشر يوليو المقيتة، وكانت الأغلبية الصامتة المغلوبة على أمرها؛ والتي أدارت ظهرها للانقلاب وما واكبه من سقوط على مختلف الصعد، قد بدأت ترفع رأسها وترى بفخر واعتزاز وأمل شعاعا أضاء ليل التيه البهيم الذي خيم فجأة على ربوع الوطن.
فلقد كان الأمير القائد أحمد ولد بوسيف الذي رفض الاشتراك في انقلاب العاشر يوليو عندما دعاه المنقلبون، لما يراه في ذلك العمل الغريب من تفريط في أمانة الدفاع عن الوطن التي يحملها الجيش، وخروج على الشرعية الدستورية العليا، وغدر تمجه قيم الفروسية التي يؤمن بها، وخيانة للوطن تؤدي به إلى الهاوية؛ ومع ذلك فقد طمأن المنقلبين عندما زاغت أبصارهم بأنه لن يبلغ عنهم لأن ذلك ليس من شيم النبل والشهامة التي رضع لبانها في المهد.. وتركهم يعملون..
كان ذلك الأمير الفذ قد كر للتو في جحفل الحرس الرئاسي الذي يقوده صديقه البطل العقيد محمد ولد عبد القادر وفصائل أخرى من الجيش، واستولى على السلطة في السادس من إبريل وأصبح رئيس موريتانيا الفعلي ورجلها القوي، وبدأ إصلاح ما أفسده العاشر من يوليو على جبهتين أساسيتين هما:
جبهة حرب الصحراء التي رفض الانهزام فيها وأبى الخروج من وادي الذهب مصرا على أن لا يكون الحل إلا شاملا وبمعية أصدقاء وحلفاء موريتانيا.
وجبهة الحكم الذي أكد على حتمية عودته إلى المدنية والشرعية ورجوع الجيش إلى ثكناته.
إلا أن قوى الفساد والهدم والتآمر والخيانة والجشع التي تجتاح يومئذ موريتانيا والمنطقة سرعان ما قلبت الاتجاه فجرت الرياح بما لا تشتهيه سفن الوطن. وكانت هنالك أخطاء أيضا، فاغتيل الأمل، وتهنا ثلاثين سنة أفسدت العباد والبلاد وأهلكت الحرث والنسل.
- كان ترك رموز العاشر من يوليو في القصر الرمادي - ولو بدون سلطة- خطأ، حيث كانوا بؤرة للتآمر؛ وخاصة تآمر المدنيين، سواء في ذلك الذين قادوا واستثمروا انقلاب العاشر من يوليو والذين تطفلوا على مائدته وتعلقوا بأذياله خوفا وطمعا، وها هم جميعا يرون أحلامهم في تمزيق، وتناهش الفريسة تتلاشى في ظل 6 إبريل.
- وكانت بوليساريو وأنصارها حاضرين في قيادة 6 إبريل وفي الجيش والشارع وعلى الحدود، وكانوا يستهدفون الرجل الرمز قبل غيره لصرامته وصلابته ووضوح رؤيته وإخلاصه لوطنه، وكان لديهم سبب آخر هو كونه القائد الذي دافع بشجاعة عن نواكشوط وتصدى للمغامرة التي وُرط فيها الولي رحمه الله بغية التخلص منه.
- وكان الصراع المغربي الجزائري الليبي السنغالي على النفوذ في المنطقة وإلحاق موريتانيا الجامحة ببستان أحد الأطراف على أشده، ومن ورائه كان الصراع العالمي.
لقد كان الرئيس القائد أحمد ولد بسيف - رحمه الله- مطاعا في حكومته، محترما وأمينا في جيشه، محبوبا في شعبه، ولكنه لم يجد الوقت والوسائل لبناء أسس ودعائم النهوض من الكبوة والصمود في وجه العدو، وقد سلم قيادة الجيش طواعية إلى أيد غير أمينة، ليتولى هو وصحبه إدارة سياسة التصحيح من فراغ، وكأن إيمانهم بقضيتهم يكفي ويغني عن القوة، والحق لا ينتصر إلا بالقوة. لقد كرر قادة 6 إبريل بالضبط خطأ الرائد جدو ولد السلك وصحبه رحمه الله. ولكن مبادئهم وأحلامهم والنظرة التي ينظرون إلى موريتانيا ظلت راسخة في هذه التربة الطيبة حتى تلقفتها الأجيال التي تسلمت المشعل ورفعت العلم خفاقا؛ ومن أخطائهم جميعا تعلم قادة 3 أغسطس 2005 أن لا يفرطوا في قيادة الجيش، وهذا سر نجاحهم.
فتحية إلى أرواح الرئيس بوسيف وصحبه الرواد، وأرواح جميع شهداء الوطن الطاهرة، وليهنؤوا بأننا على درب الاستقلال والوحدة والحرية والكرامة سائرون.
نشر بتاريخ 27 مايو 2015