.. لم يستسلم محمد فاضل، ولم يساوم على شرفه وكرامته، ولم يطأطئ رأسه أبدا لذلك البناء الفوقي المتداعي؛ بل ناضل من أجل تحرير الوطن وإقامة الدولة وانعتاق الشعب وتحقيق المساواة بين جميع مكوناته وأفراده. وقد دخل المعركة من أوسع أبوابها، حين انتمى وهو صاحب القلم الرشيق والفكر النيّر والكلمة المجنحة الفتاكة، إلى لجنة تحرير "صيحة المظلوم" وهي نشرة سرية ناطقة باسم ثورة الكادحين!
كانت لجنة تحرير "صيحة المظلوم" تتشكل يومئذ من المناضلين التالية أسماؤهم: محمدٌ ولد عابدين (بدن) رحمه الله رئيسا، أحمدو ولد عبد القادر، محمد فاضل ولد الداه رحمه الله، المختار ولد حي، يسلم ولد ابن عبدم أطال الله بقاءهم.
وكانت تجربة صحافة الكادحين السرية تجربة رائدة وغنية لكثرة ما يحيط بها من مكاره وأخطار!
لم تكن إرهاصات الطفرة التكنولوجية الحالية قد بدأت بعد، ولا توجد أية ديمقراطية - حتى ولو كانت شكلية- كتلك التي لدينا الآن؛ والتي تتظاهر بمنح بعض الحريات، كحرية التعبير وحرية التنظيم؛ بل كان يسود يومها نظام ديكتاتورية الحزب الواحد. وكان المتاح لمن يرفضها أن يخسأ ويستسلم، أو يلجأ إلى العمل السري ويستخدم في التعبير عن رأيه آلات بدائية جدا كالراقنات والمشمع (stencil) والمكثرات اليدوية! وهي محرمات يؤدي العثور عليها إلى مصادرتها وسجن المتلبس بها!
ولذلك كانت مهمة لجنة تحرير "صيحة المظلوم" في غاية الصعوبة: كانوا في بداية أمرهم يخرجون من المدينة ليلا إلى الخلاء فيضربون قبة سوداء في كنف شجرة أو ربوة ويبدؤون في رقن ما لديهم على آلة كاتبة يدوية، وعلى المشمع (stencil) مستعينين بمصباح يدوي خافت! وبعد ذلك تبدأ معركتا السحب والتوزيع. ولكل منهما فرسانها الشجعان! وهكذا دواليك.. ثم جاءت مرحلة "القنوت" وهو الاسم الذي أطلقوه على تقنيتهم الجديدة: كوخ خشبي يتم بناؤه في الخلاء (بني أول "قنوت" في الخلاء جنوب المطار: كرفور حيث لا يوجد أحد) أو في طرف من أطراف أحياء الصفيح غرب المدينة، فتدفن فيه الأدوات، ويجري ارتياده وهْنا من الليل عند الحاجة لإنجاز العمل! وظل الأمر كذلك إلى أن امتلكت الحركة مخابئها وأجهزتها تحت الأرض. وكان ذلك بمبادرة وتخطيط الأستاذ عبد القادر ولد حماد أطال الله بقاءه!
ويعتقل محمد فاضل أثناء حملة القمع الممنهجة ضد الكادحين شتاء 1973!
وإن أنس لا أنس تلك الليلة من السنة نفسها التي جمعتني مع محمد فاضل ولد الداه في معتقل المدرسة رقم 2 بلكصر، حين انهال عليه الجلادون وهْنا من الليل بالضرب المبرح على مسمعي، وكان يصرخ بصوته الجهوري العذب متحديا جلاديه ومرددا شعارات الكادحين؛ وخاصة شعارات تسقط الفاشية، يسقط القمع، عاشت الحرية!
تذكرت "ليلة عند الدرك"! وتساءلت في نفسي من هم هؤلاء القساة الأنذال الذين يعذبون مثقفا بسبب آرائه، ومن أي طينة بشرية هم؟ وهل الرئيس المختار الحقوقي المسلم الإنسان على علم بما يجري في دولته وباسمه؟ ولم يغمض لي جفن تلك الليلة أسى على صاحبي الفاضل فاضل! وفكرت في حيلة يمكن أن ننقذ بها ذلك الشهم الشجاع! وفي ضحى الغد جاء دوري! ومن غريب الصدف أن كان جلاداي المباشران والآمران من مسقط رأسي، مدينة المذرذرة تحديدا! رحمهما الله وعفا عنهما! واتخذت قراري! يجب أن أخرج من هنا!
وخرجت في الليلة الموالية! فأصبح كل شيء يدور حول البحث عني! وانشغلت قوى القمع إلى حين عن تعذيب السجناء الآخرين، وانهارت معنوياتها بسبب فشلها الذريع في العثور على! ذلك الفشل الذي جعل وزير الدولة للسيادة الداخلية رحمه الله - رغم حصافته ورزانته- وكان رجل دولة حقا بشهادة الرئيس المختار نفسه في كتابه "موريتانيا على درب التحديات" يسألني في أيام الصفاء: "ﯕولي امنين كنت؟ نحن ما ابڴَ ابلد ما لودنالك فيه"؟ فأجبته ممتعضا على الفور: "كنت في حفظ الله"! ولم يعقب!
وفي النصف الأخير من تلك السنة أطحنا في اللجنة المركزية بمغامرة إعلان الكفاح المسلح من فراغ، التي فرضها بعض المتطرفين في حزبنا، وأعلنا عن وجود الحزب، وتبنينا سياسة تدعو إلى قيام جبهة وطنية مع النظام على أساس برنامج وطني حددنا معالمه. وقد توجت تلك السياسة بعد مخرجات مهرجان الشباب المشهود في أغسطس 1974 بإعلان تأميم "ميفرما" و"بياوو" (BIAO) والعفو العام عن جميع المعتقلين والمطلوبين، وإصدار ميثاق وطني تقدمي ينير طريق الوطن ويأخذ بناصيته إلى الحرية والبناء! لقد تصالحت موريتانيا مع نفسها أخيرا وسارت على الصراط المستقيم!