مرت لحد الآن أكثر من 12 يوما منذ أن قررت السلطات الأمنية في موريتانيا قطع الإنترنت عن الهواتف المحمولة، وإرسال الموريتانيين دفعة واحدة إلى ما قبل بداية القرن الحالي الذي يعبرون منه الآن سنته الرابعة والعشرين في وجه أزمات تنموية وإخفاقات مجتمعية متعددة.
ثمة أشياء لم يعد ممكنا عنها الاستغناء الآن مثل الماء الذي تحول من عصب الحياة إلى زائر ليل، يعتمد منهج رحم الله من زار وطار، حيث تعاني في هذه الفترة مقاطعات العاصمة نواكشوط، وأغلب مدن البلاد انقطاعات متكررة للمياه، وشحا في الواصل منه إلى العطاش، لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد، لها بوجهك نور تستضيء به ومن حديثك في أعقابها حادي إذا اشتكت من كلال السير أو عدها روح القدوم فتحيا عند ميعاد.
ومثل الماء أصبحت الإنترنت اليوم، فمنها جنت شركات الاتصال خلال سنوات قليلة مئات المليارات من حر مال المواطنين الذين حصلوه بالكدح والعرق.
وبالإنترنت اليوم تستقر سوق شعبية، أصبحت أكثر فعالية وقدرة من مثيلاتها في الواقع.
ومن خلال الإنترنت تتحرك وتيرة التواصل الاجتماعي بين مختلف أفراد البلاد، وحسبك أنها شبه مجانية في كثير من أنحاء العالم، حيث لا يحتاج توفيرها زخما هائلا ومنة كبيرة، أما قطعها فهو سابع المستحيلات في غير بلدان قليلة جدا، لا ينبغي أن تظل موريتانيا مضافة إليها دائما.
وعندما يتحدث الرئيس المنتخب عن الشباب ومأمورية الشباب، ثم يأتي ليقطع المتنفس الذي كانوا يأون إليه من واقع الإفلاس وانعدام الأفق، والمتاح الذي يمارسون فيه ما يمكن من هوايتهم، وعلاقاتهم، واستثماراتهم التجارية.
عندما يراهن النظام على رفع نسب النجاح ثم يقطع الإنترنت التي أصبحت منذ فترة جزء أساسيا من وسائل التدريس والمطالعة، والمذاكرة الجماعية.
وعندما يفرض على الجميع واقعا مفاده أن اذهبوا واصرفوا المال لشركات اتصال محدودة ومشبوهة الأداء، وإلا فلم يعد لكم مكان في عالم ثورة الاتصالات.
كل هذه الأخطاء ينضاف إليها تراجع مقيت في خدمات الاتصال الهاتفي وضعف غير مسبوق في التغطية، وعجز كبير في قدرة الشبكات على الاتصال، وسرقة متواصلة لأرصدة المواطنين والباقات التي دفعوا مقابلها في أيام محدودة مئات الملايين من الأوقية.
وأكثر من ذلك عندما تفرض حصارا بين الجاليات وأسرها في الداخل، وبين الأمهات وأبنائها المغتربين في الداخل أو الخارج، فهل يتوقع النظام أن يقابله الشعب بالأحضان وأن يثني على أدائه، وأن يكرر بعض ما يقوله مصفقته من أن كل شيئ على خير.
إن المبالغة في الرعب الأمني هي التي حولت أداء السلطة إلى أضحوكة أمام الرأي العام الذي باتت المبكيات تضحكه، وهو الذي جرأ عليه خصومها من معارضة الابتزاز، لأنها آنست ضعفا شديدا في وسائل النظام في حسم رأيه وموقفه، ولأنه يختار دائما العقاب الجماعي للمواطنين كلما فتحت عليه جبهة محدودة في أفقها ووسائلها وقدراتها.
الأكيد أن النظام لم يقرأ نتائج الانتخابات، فقد أظهرت له عزوف الشعب الموريتاني عن التصويت، ومن المؤكد أن الذين لم يصوتوا هم جزء أساسي من دائرة الدعم المتوجهة أصلا إلى النظام، لأنهم سئموا من التردد وعدم القدرة على الحسم والقطع إلا فيما يتعلق بالانترنت، أو علاوات المدرسين وصغار الموظفين.
اليوم إذا يجتمع على الموريتانيين سوء الظروف الاقتصادية التي تهدد الإنسان قبل الحيوان، وارتفاع الأسعار غير المسبوق، وغياب المشاريع الكبرى التي يمكن أن تحفر للنظام حضورا في الذاكرة التاريخية للأمة، ليبقى قطع الانترنت أبرز ما سيتذكر به الموريتانيون بداية ونهايات مأموريات ولد الشيخ الغزواني إن لم يقرر تركيب برنامج لتنظيف جهازه الذي يدير به الشأن العام.
ربما يحتاج الرجل أن يفهم أكثر بأن العالم تغير وأن الشعوب باتت أكثر تمردا على الأغلال، حتى تلك التي تنصب بحجة الدفاع عن أمنها، ومتى كان الأمن حصارا.