لأن تاريخنا الحديث مليءٌ بمثل هذا، وكان له الأثر السلبي العميق على البلاد والعباد، أقول:
أحزن كثيرًا عندما أقع بين فريقين: فريق يبالغ جدًّا في تحليلاته وتوقعاته، ولا يتركك إلا وقد خدَّرَكَ تخديرًا كاملًا، ويُحلِّق بك في آفاق الكون، وفريق آخر ينظر إلى الأمور نظرة حالكة السواد، حتى يصل بك إلى حالة من الاكتئاب، والقنوط، والتأزم النفسي، ويذهب بك في غياهب جُبِّ اليأس بلا رجعة.
أليس منا رجلٌ رشيد، يتَّبع منهج القرآن الراقي الجميل، الذي يروي الأحداث، ويُعقِّبُ عليها بصورة واقعية، تلامس حقيقة النفس البشرية السَّوِيَّة، وتحافظ على ثباتها، واتزانها الانفعالي؟!
ليس هناك مصلحة في أن نعيش الخيال والوهم، كما أن المفسدة كل المفسدة في أن نعيش الإحباط واليأس.
لقد قصَّ القرآن أحسن القصص، وحكى لنا أصدق الأحداث، بلا تهويل، أو تهوين .. قصَّها لنا كأننا نراها، وعلَّق عليها، فأحق فيها الحق، وأبطل الباطل، وأثنى على مَنْ أحسن وأجاد، وعاتب أو زَجَرَ من أخطأ أو أساء، وأقام الميزان بالقسطاس المستقيم، وحكم في القضايا والأحداث دون مجاملةٍ لأحد.
التوازن والاتزان كلمتان مشتقتان من مادة (وزن)، ومنها اشتُقَّ (الميزان)، والميزان دائمًا وفي كل الثقافات رمز العدل.
تثبيت المؤمنين لا يعني سرد التهويل والمبالغة، أوالتحليق في عوالم الأوهام، ولكن يعني أولًا: الرواية الواقعية الموضوعية، وثانيًا:
التذكير بمعاني الإيمان ومعية الله، وثالثًا: الدعوة إلى النهوض من الكبوة- إن حدثت- وعدم الاستسلام لها.
ويكون رابعًا: بمعرفة الأخطاء ومعالجتها، واكتشاف الثغرات وسدِّها.
ألم يقُلْ ربُّنا في أعقاب غزوة أحد:{ إِن یَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحࣱ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحࣱ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَاۤءَۗ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ }
[سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: ١٤٠]
فهو- سبحانه- يواسيهم، ويُصبِّرُهُم، ويُثَبِّتُهُم، في الوقت الذي يُثْبِتُ فيه القَرْحَ للطرفين.
ألم يقف أنس بن النضر في ميدان أحد- وقد أُشِيعَ مقتلُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فنادى في الصحابة بأعلى صوته: قوموا فموتوا على ما مات عليه نبيُّكم؟
لم يكن- رضي الله عنه- حريصًا على إنكار الحدث بقدر حرصه على تثبيت الناس، وإقالة عثرتهم، وانتشالهم من كبوتهم النفسية، عن طريق تذكيرهم بالقضية الرئيسة، والرسالة العظمى، والغاية الكبرى، التي مات عليها، ومن أجلها النبيُّ- إن كان قد مات-.
الجماهير المؤمنة ليست بحاجة إلى تحليلات واهمة، ترفعها إلى السماء ثم تدَعُها تهوي إلى مكان سحيق، وتِيهٍ عميق، ولكنها بحاجة إلى الحوار الذي دار بين عمر بن الخطاب بإرشاد من النبي- صلى الله عليه وسلم- وبين أبي سفيان عقب غزوة أحد.
أبو سفيان: اُعلُ هُبَل.
عمر بتوجيه من النبي: الله أعلى وأجلّ.
أبو سفيان: الحرب سِجال، يوم بيوم بدر.
عمر: لا سواء قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار.
هذه ونظائرها هي الرسائل الواجب توجيهها إلى الجماهير المؤمنة، فالله هو الأعلى والأجل، والمؤمنون هم
الأعلون بإيمانهم، وقتلانا شهداء، والشهداء في الجنة، وجرحانا وذووهم من أعظم الناس أجرًا بإذن الله، والحياة لا معنى لها بلا دين، أو وطن، أو عزة، أو كرامة.
الواقعية تقول: إننا نألم، والتثبيت يقول: إنهم يألمون كما تألمون، ولكنكم ترجون من الله ما لا يرجون.
الموضوعية تقول: العدوُّ قويٌّ بعَدَدِهِ، وعُدَّتِهِ، وبالعالَمِ المتآمرِ معه، والتثبيت يقول: { ٱلَّذِینَ ٱسۡتَجَابُوا۟ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِنۢ بَعۡدِ مَاۤ أَصَابَهُمُ ٱلۡقَرۡحُۚ لِلَّذِینَ أَحۡسَنُوا۟ مِنۡهُمۡ وَٱتَّقَوۡا۟ أَجۡرٌ عَظِیمٌ (١٧٢) ٱلَّذِینَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُوا۟ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِیمَـٰنࣰا وَقَالُوا۟ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِیلُ (١٧٣) }
[سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: ١٧٢-١٧٣]
وللحديث بقية إن شاء الله.