استدعت الجائحة العالمية بالنسبة للغرب، نوعا غير مسبوق من الإنكباب على البحث ودراسة الظاهرة الصحية بأبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية والفلسفية، لقد استنفرت المراكز البحثية في أوروبا كل طواقمها وخبرائِها لأجل محاولة فهم الذات الغربية تحت صدمة الجائحة، ولتفكيك الرسائل المشفرة والدروس التي حملتها الجائحة، وكان أحد تلك الدروس هو ضرورة إعادة بناء المنظومات الصحية والفكرية والقانونية لتكون جاهزة لهذا النمط من الصدمات في حال عادت مجددا أو طال أمدها، ومن البداهة القول إنها احتمالات واردة خصوصا في حالة "اللايقين" التي بات يعيشها العالم.
إن مستوى النقاش الفكري لدى الغرب إزاء الجائحة قد تطور سريعا ليصل لمرحلة الحديث عن أدب "مابعد الجائحة"، وإذا كان الغرب قد تضرر صحيا أكثر من غيره من سكان الكوكب، فإنه في المقابل حقق مكاسب رمزية مهمة على مستوى التأقلم والإرتجال في آن واحد، فالمخاطر الجادة التي تهدد الوجود البشري باتت تفرض نوعا من الخضوع والتأقلم النسبي إجرائيا وتنظيميا، أما الرسائل التي حملتها الجائحة فهي تفترض نوعا من الارتجال والإصرار على مواصلة الحياة، واستئناف سيرورة الزمن والاقتصاد والسياسة..
على الصعيد العربي، ما زالت منظوماتنا الفكرية عاجزة نسبيا عن تجاوز الآثار الأولى للصدمة، حتى بعد أكثر من عام من عمر الجائحة، وكأننا بحاجة لعقد من الزمن كي نعيد ترتيب أوراقنا، هذا ناهيك عن المنظومات الصحية والاجتماعية الهشة أساسا. وبالنظر لخصوصية العقل العربي المتكاسل عن مواجهة الأسئلة الوجودية التي حرضتها الجائحة، لم يذهب الإنسان العربي أبعد من حالة الارتباك النفسي والإجرائي ومحاولة التكيف السلبي مع الموجات الأولى عبر تجميد حركية المجتمع والإقتصاد والسياسة والتعليم إلى آخره.، ثم -وكانتصار جزئي لا يحسب له- حاول العالم العربي (أفرادا ومؤسسات) أن يتعايش مع الجائحة بنمط لم يستبعد فكرة الخضوع السلبي، التي تُبقي الباب مفتوحا على مزيد من احتمالات التفشي والتحوُّر السلالي (بيولوجيا) ومزيد من التراجع والتأقلم السلبي (نفسيا واجتماعيا) ما يعني بصورة أخرى أننا نسير في سفينة بلا قبطان، متجهة نحو مجهول لسنا مهيئين لإدراكه ولا نملك حياله سوى المزيد من النحيب والتداعي.
عالميا، لم تقتصر الاحتمالات التي أججتها الجائحة على الصعيد الصحي والغذائي وحسب، بل كان سؤال الديموقراطية حاضرا بقوة، فما هي حدود السلطة السياسية في ظل الظروف الاستثنائية التي حاصرَنا داخلها الخوف المصاحب للجائحة؟ أي نمط من التدبير نحتاج؟ هل هو تدبير عمودي (تدبير النخبة والخبراء) أم هو تدبير أفقي (تدبير المجتمع) ؟
لقد أثار الفيلسوف "البراغماتي" جون دوي john dewey هذه الأسئلة في سياق معارضته لأفكار الفيلسوف ليبمان، أحد رواد النظرة "الليبرالية الجديدة" حول الإنسان والمجتمع التي تدعو للمرونة والتأقلم مع التغييرات المتلاحقة على الإنسان والمجتمع.. إن ما يدعوا إليه جون ديوي بوضوح، هو منح الجمهور "المجتمع والشعب" فرصة حرة لاختيار اتجاهاته وتحديد خياراته في مواجهة التحديات البيوسياسية، لكي "تحتفظ كل تجربة بشرية بطابعها اللحظي والمتفرد" ولكي تعيد الشعوب تنظيم قراراتها بانتظام في مقابل ما تقرره لها النخب.
ولئن كان الطابع التبسيطي واضحا في هذه الدعوة الأخيرة، فإنها في الوقت ذاته تمنح للمجتمعات البشرية فرصةً لاكتساب خبرة أوسع عن ذاتها وحياتِها تحت وطأة التحديات البيولوجية والبيئية التي تهدد وجودها.
إن الحسم النظري والعملي في ظل التطور السلالي المتسارع وتباطؤ مسار التلقيح وارتباك النخب والشعوب أمر غير ممكن والمطالبة به تفتقر للموضوعية، ولكن المؤكد والمتاح، هو أنه باستطاعتنا أن نعيد بناء تصورات واضحة ونهائية عن طبيعتنا البشرية والخيارات الممكنة في مواجهة الظروف الاستثنائية والأمراض العابرة للقارات وذلك عبر "لبرلة" ردود أفعالنا، ولكن بطريقة حذرة.