بعد تشكيل الحكومة الموريتانية الجديدة برآسة الوزير الأول المختار اجاي في مأمورية الرئيس الثانية ضجت المواقع الاخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي بعناوين تدور حول: محاربة الفساد والمفسدين وقد قرأت تلك الكتابات التي كان آخرها تدوينة العميد: الوزير السابق محمد فال بلال الذي أعلن أنه سيغادر هذا الفضاء الأزرق مأسوفا عليه بعدة مسيرة حافلة بالعطاء!!
ولكن كانت غالبية الكتابات توصيف للظاهرة والخروج بتساؤلات؟! بدون ذكر العلاج!!
وقد تطفلت على هذا الموضوع السياسي على غير العادة!!
لم أهتم يوما بالسياسة في هذا البلد لأنني كنت أعتقد أن هذا الشعب مثل غيره من الشعوب العربية مازال لا يفقه كثيرا في السياسة..
ولكن الأحداث المتسارعة والغير مسبوقة فرضت علي كغيري من المراقبين أن نعيد النظر في المفاهيم والمستجدات!!
يعتبر الفساد، نتاج تراكمات اجتماعية وسياسية.
وقد يصبح جزءًا من نسيج المجتمع فعندما يحتفى به داخل المجتمع وتصبح رموزه محل إعجاب وانبهار، يُصبح من الطبيعي أن يتحول إلى سلوك مُتبنى بشكل واسع، ينعكس على سلوك الأفراد والمؤسسات على حد سواء.
السبب في تآلف المجتمع مع الفساد قد يعود إلى جملة من العوامل، من بينها ضعف الوعي بالآثار السلبية للفساد على المدى الطويل، أو عدم وجود مؤسسات فاعلة قادرة على تقديم بدائل واقعية.. .
الإصلاح يتطلب جهدًا شاملاً يبدأ من إعادة بناء القيم المجتمعية على أسس أخلاقية جديدة تُعلي من النزاهة وتعزز الوعي بالآثار السلبية للفساد.
ومع ذلك، هناك تحديات فريدة في السياق الموريتاني نتيجة للارتباط العميق بالقبيلة وتأثيراتها على النظام السياسي والاجتماعي، مما يتطلب تفكيرًا دقيقًا في كيفية التوفيق بين التراث البدوي والنظام الحضري الحديث...
الغياب التاريخي للسلطة المركزية في البلاد حتى الاستقلال 1960م، وتأثير ذلك على بنية المجتمع الموريتاني الذي ظل مرتبطًا بالقبيلة أكثر من ارتباطه بالدولة.
هذه الحقيقة تعكس استمرار تأثير القيم القبلية في السياسة والمجتمع حتى في ظل الدولة الحديثة.
ان البداوة الموريتانية ليست كغيرها من أشكال البداوة. فهي "بداوة مثقفة" تأثرت بالمفاهيم الإسلامية، مما يجعلها حالة فريدة تحتاج إلى معالجة خاصة.!!
أما عن قدرة الحكومة الحالية على القضاء على الفساد، فحسب رأي هناك عوامل اذا فعلت قد تعطي أملاً في تحقيق هذا الهدف وهي:
1. قرار رئيس الجمهورية بإقالة المسؤولين المتهمين بالفساد: هذه خطوة جريئة يمكن أن تُرسل رسالة قوية بأن الفساد لن يُتسامح معه.ومعلوم ما للوظيفة من أهمية عند الموريتاني!! ولكن فعالية هذا القرار تعتمد على تطبيقه بحزم وشفافية.
2. استقلال رئيس الجمهورية عن التأثير القبلي: إذا تمكن رئيس الجمهورية من الاستفادة من فترة ولايته الأخيرة لإجراء إصلاحات جذرية تفصل بين القبيلة والوظيفة العامة، فقد يكون هذا بداية لتغيير كبير في الديناميكية السياسية في البلاد.
3. مراجعة الفتاوى القديمة المتعلقة بإباحة المال العام: فقبل قيام الدولة الموريتانية هناك فتاوي باإباحة المال بدعوى أن السلطة كانت عند أمراء بني حسان وهم في نظرهم مستغرقي الذمم ومن بعدهم الاستعمار الفرنسي، الذي يقولون أن قوانينه ماتزال تطبقها الدولة!!
(مع العلم أن القوانين المعمول بها الآن شكلت لها لجنة من العلماء بعد الاستقلال وصاغتها على المذهب المالكي المعتمد في موريتانيا). وهذه خطوة مهمة لأنها تعالج الجانب الشرعي من القضية.
إعادة دراسة الفتاوى السابقة وتحديثها لتتناسب مع العصر الحديث يمكن أن يُساهم في تغيير الوعي الديني والاجتماعي حول موضوع الفساد.
أخيرا إذا تم تفعيل هذه العوامل بشكل فعّال ومدروس، فإن الدولة قد تحقق تقدمًا ملحوظًا في القضاء على الفساد.
لكن النجاح يتطلب إرادة سياسية قوية، ووعي مجتمعي واسع، واستمرارية في الجهود الإصلاحية.
التحدي الأكبر الذي يواجه المجتمع الموريتاني اليوم، ،هو التوفيق بين التراث البدوي والنظام الحضري الحديث.
إن هذا التوفيق يتطلب من الخبراء والعلماء إعادة التفكير في كيفية استيعاب وتكييف هذه القيم في إطار نظام اجتماعي وثقافي يتماشى مع العصر الحديث، دون أن يفقد هويته أو ينفصل عن جذوره الإسلامية.
ولقد أصبح من الضروري على علمائنا وفقهائنا ،إعادة النظر في جميع الأحكام الشرعية السابقة، المبنية على حقائق لم تعد مسلمة ليبينوا للناس أمور دينهم، وينبذوا منها ما ليس له رصيد من هداية الله في مجتمع يحرص على تبرير سلوكياته في إطار التشريع الإسلامي، رغم أن أكثرية تلك السلوكيات لا تمت للإسلام بصلة!!
بأن يأخذوا من السلف اجتهادهم في صنع عصرهم, من خلال اهتمامهم بالوقائع والمستجدات, ليبدعوا لنا ثقافة تستجيب لمتطلبات عصرنا وطموحنا وأن لا نظل ثقافة الماضي الأعزل ونحن نعيش في عالم الدول والأمم والقارات.
الملخص:
المقال يعالج مشكلة الفساد في موريتانيا من منظور شامل، مسلطًا الضوء على التحديات الثقافية والاجتماعية التي تعقد من هذه القضية في السياق المحلي. يشير المقال إلى أن الفساد في موريتانيا ليس فقط مشكلة إدارية أو قانونية، بل هو نتيجة لتراكمات اجتماعية وسياسية، أبرزها تأثير القبيلة والثقافة البدوية، مما يجعل محاربته أكثر تعقيدًا.
تطرق المقال إلى عدة حلول ممكنة، منها:
1. إقالة المسؤولين المتهمين بالفساد، وهي خطوة تتطلب تنفيذًا حازمًا وشفافًا.
2. استقلال الرئيس عن التأثير القبلي، من خلال إصلاحات تفصل بين القبيلة والدولة.
3. مراجعة الفتاوى القديمة المتعلقة بإباحة المال العام ، حيث يمكن أن يسهم تحديث الفتاوى في تغيير الوعي الديني والاجتماعي حول الفساد.
يشير المقال إلى التحدي الأكبر في التوفيق بين التراث البدوي والنظام الحضري الحديث**، مما يتطلب تفكيرًا جديدًا من قبل الخبراء في كيفية استيعاب القيم الثقافية والدينية في نظام اجتماعي يتماشى مع العصر الحديث.
ان نجاح هذه الجهود يتطلب إرادة سياسية قوية ووعيًا مجتمعيًا واسعًا، مع ضرورة مشاركة المجتمع بجميع أطيافه لضمان تبني الإصلاحات بشكل فعّال.