تاريخ موريتانيا الحديث يزخر باللحظات الحاسمة التي شكلت هويتها الوطنية وساهمت في تحقيق استقلالها، من بين هذه المحطات البارزة يأتي تأسيس "المجلس العام لموريتانيا" عام 1946، كأول هيئة تمثيلية منتخبة في تاريخ البلاد، والتي كانت لها تأثيرات ملموسة على مسار المستقبل السياسي لموريتانيا، رغم القيود المفروضة تحت الاستعمار الفرنسي كانت هذه التجربة السياسية بمثابة اللبنة الأولى التي أدت إلى إعلان الجمهورية الإسلامية الموريتانية في عام 1958.
أولا: المجلس العام وأولى خطوات التمثيل السياسي
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، شهدت إفريقيا تحولات سياسية كبيرة، وكانت المستعمرات الفرنسية في غرب إفريقيا جزءًا من هذه التحولات، في هذا السياق، تم تأسيس المجلس العام لموريتانيا في إطار إعادة هيكلة السياسة الاستعمارية الفرنسية بموجب دستور الجمهورية الرابعة لعام 1946، والذي منح بعض المستعمرات، بما فيها موريتانيا، فرصة للتمثيل السياسي المحدود، الانتخابات التي جرت لتشكيل المجلس العام كشفت عن التفاوت الكبير بين السكان المحليين والمستعمرين الأوروبيين، حيث قُسّم الناخبون إلى فئتين: المواطنين المحليين والمواطنين الفرنسيين والمقيمين الأوروبيين، رغم هذا التفاوت، شكّل المجلس خطوة أولى نحو بناء الهوية السياسية للموريتانيين.
في يوم 28 أكتوبر 1946، عقد المجلس أولى جلساته في مدينة سان لويس، بحضور الحاكم الفرنسي جورج بوارييه، الذي شدد على ضرورة استغلال المجلس لتحسين الأوضاع التنموية والخدمية في موريتانيا، رغم أن المجلس بقي محدود الصلاحيات تحت إشراف الإدارة الاستعمارية.
ثانيا: تشكلة المجلس وصلاحياته المحدودة
يتكون المجلس العام من نظام مزدوج الصلاحيات، حيث تم توزيع السلطات بين الأعضاء الموريتانيين والأوروبيين، ومع ذلك كانت السلطة الفعلية بيد الإدارة الفرنسية، وبالرغم من ذلك، أتاح المجلس فرصة للنخب الموريتانية الناشئة للمشاركة في الحياة السياسية واتخاذ بعض القرارات المتعلقة بالشؤون المحلية.
تشكلت داخل المجلس لجان متعددة، مثل لجنة المالية ولجنة الشؤون المختلطة، التي ناقشت القضايا الاقتصادية والاجتماعية المهمة، وقدمت أولى محاولات إدارة شؤون البلاد سياسيًا ضمن إطار تنظيمي أكثر حداثة.
ثالثا: الجمعية الإقليمية وانتخابات 1951
في يونيو 1951، تم تعديل اسم "المجلس العام" ليصبح "الجمعية الإقليمية الموريتانية"، وجاء هذا التعديل في إطار استجابة فرنسا للضغوط المحلية والدولية بهدف توسيع قاعدة التمثيل السياسي في مستعمراتها، شكلت انتخابات 1951 محطة حاسمة في تطور المشهد السياسي في موريتانيا، إذ شهدت تنامي الطموحات السياسية المحلية وتزايد الدعوات المطالبة بالاستقلال.
في هذا السياق، بدأت الأحزاب السياسية في التشكل والمساهمة في التأثير على الحياة السياسية، تأسس الاتحاد العام لمنحدري الضفة في عام 1947، وركز على الدفاع عن حقوق المواطنين من الزنوج، بينما ظهر الاتحاد التقدمي الموريتاني في عام 1948 بدعم من بعض الشخصيات المؤثرة والمقربة من الإدارة الفرنسية، في عام 1950، تم تأسيس حزب الوفاق الموريتاني بقيادة حرمة ولد ببانا، وكان هدفه تحقيق الوحدة الوطنية ومعارضة الاستعمار الفرنسي، ثم تأسست رابطة الشباب الموريتاني في عام 1955، وضم مجموعة من الشباب الطامحين إلى التحرر الوطني، عام 1958 شهد تأسيس حزب النهضة الوطنية الموريتانية بقيادة بوياگي ولد عابدين، الذي ركز على تحقيق الاستقلال عن فرنسا، وفي نفس العام تم دمج الاتحاد التقدمي وحزب الوفاق لتشكيل حزب التجمع الموريتاني، في عام 1959 تأسس الاتحاد الوطني الموريتاني بدعم من الحزب الفيدرالي الإفريقي، وفي فبراير 1960 تم تأسيس اتحاد الاشتراكيين المسلمين الموريتانيين، الذي ضم نخبة سياسية من منطقة أدرار.
ثالثا: الجمعية التأسيسية وإعلان الجمهورية
في يوم28 نوفمبر1958، شهدت موريتانيا حدثًا تاريخيًا فارقًا، حيث أعلنت الجمعية الإقليمية، بكامل أعضائها، عن قيام الجمهورية الإسلامية الموريتانية، جاء هذا الإعلان كجزء من التحولات السياسية في المستعمرات الفرنسية في إفريقيا بعد موجة حركات التحرر الوطني واستجابة لاستفتاء سبتمبر 1958.
خلال هذه الجلسة، أعلنت الجمعية انضمام موريتانيا إلى "المجموعة الإفريقية الفرنسية"، ولكنها وضعت الأساس لاستقلال البلاد الكامل، كما قررت الجمعية الإقليمية تحويل نفسها إلى جمعية تأسيسية، لتكون المحرك الرئيسي لصياغة الدستور المستقبلي وتحضير البلاد لمرحلة ما بعد الاستعمار.
بعد المصادقة على دستور 22 مارس 1959، أصبحت الجمعية التأسيسية تُعرف باسم "الجمعية الوطنية"، والتي صارت البرلمان الذي يشرف على الحياة التشريعية في البلاد، هذا التطور كان تتويجًا لسنوات من العمل السياسي والتفاوض مع السلطات الاستعمارية، وساهم في ترسيخ أسس الدولة الموريتانية الحديثة.
رابعا: إرث المجلس العام في بناء الدولة الوطنية
رغم أن المجلس العام كان في البداية هيئة مقيدة الصلاحيات، إلا أنه ساهم في بناء الوعي السياسي لدى النخب الموريتانية، وفتح المجال أمامهم للمشاركة في اتخاذ القرارات السياسية وتطوير مهارات التفاوض والإدارة، التحولات التي شهدها المجلس، وصولًا إلى إعلان الجمهورية، شكلت محطات أساسية في مسار التحرر الوطني.
هذا الإرث السياسي لا يزال مؤثرًا في الحياة السياسية المعاصرة، إذ أن المؤسسات التمثيلية التي تأسست تحت الاستعمار وضعت اللبنات الأولى للنظام الديمقراطي في موريتانيا، تجربة المجلس العام، على الرغم من محدوديتها، كانت تجربة تدريبية للنخب السياسية التي قادت البلاد نحو الاستقلال وأسست الدولة الحديثة التي تعبر عن تطلعات الشعب الموريتاني.
يظل المجلس العام لموريتانيا محطة تاريخية هامة في مسيرة البلاد نحو الاستقلال، وفي ظل التحديات التي فرضها الاستعمار، أتاح هذا المجلس للموريتانيين فرصة الانخراط في الحياة السياسية وتأسيس تقاليد سياسية جديدة، لقد كان هذا المجلس، بكل ما له وما عليه، بمثابة جسر بين مرحلتين تاريخيتين: مرحلة الهيمنة الاستعمارية ومرحلة الدولة الوطنية.