أَنَّاتُ ولد مكلوم في والده!- سيد محمد الداه محمد العاقب

عام جديد يمضي وغصة ألم الفراق ما زالت تخنق أجسامنا النحيلة... عام جديد وشريط الذكريات الجميلة جمال أيامك القصيرة معنا سهام نافذة في قلوبنا المكلومة... رحيلك عنا لم ولن يكون بالحدث العابر ينسيه تعاقب الجديدين..  فيوم رحلت رحلت معك البسمة من شفاهنا وأظلمت الدنيا في وجوهنا إلا من مآثرك وذكرك الطيب أينما حللت وارتحلت...
سأبكيك ما فاضت دموعي وإن تغض..
 فحسبك مني ما تكن الجوانح.
قد يظن البعض عند قراءة هذه الكلمات إطنابا مني في جنب والدي  وله أن يقول لأن الإنسان جُبِلَ بطبيعته على محبة أبويه، وقد نبه الله تعالى تربية لنا وحضًّا على ذكره عندما قال: "اذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا"، لشدة معرفته بنا وبغرائزنا الذاتية، ولا غرو ولا شك أن ثمة شيء من تلك المحبة الذاتية لهذا الأصل الجليل... غير أنه أرْبَتْ على ذلك شؤون عظام ومآثر خالدة وأمور وأحداث كان والدي ولا فخر على مِحًكِّها صلبت عوده فأظهرت معدنه الأصيل واقتداره وحنكته وعظيم مراسه فيها مما أعطاه تميزا قَلًّ مثله، ليس على المستوى المهني فحسب، بل على كل المستويات، بدءا بالخلق الديني العظيم وبذل الندى وكف الأذى والبشر في وجه كل من يلقاه والاحتفاء بكل من تعرف عليه أو يعرفه، مع عدم الابتذال وجزالة المعاملة وصيانة ماء وجه المحتاج والإحسان الخفي حيثما حًلّ وأقام كقائد عسكري في  مختلف المناطق النائية، فشهد القاصي والداني له بتسخير الإمكانيات المهنية ليس للدفاع عن حدود الوطن بكل براعة تخطيط وبُعْدِ نظَرٍ وحيْطَةِ وشجاعة فحسب لكنه سخر جوانب منها لسقاية العطشى في تلك الأحياء الهشة على الحدود... والأغرب من ذلك كون فيض إحسانه كانت تستره العفة وعدم انتظار أو تشجيع المُحْسَنِ إليهم على شكر تلك الأعمال، فكانت ميزته في كل ذلك التواضع وعدم الإعجاب بعمله وتجاوزه إلى ما هو أفضل منه حتى لا تشغله مكاسب عن مكاسب ولا رؤية فضل لنفسه  على الغير... 
تولى مهام عظيمة كان يدير بحكمة "العديد من الملفات و العمليات" خلال مساره الوظيفي مسؤولا ساميا، يعود له الفضل في تفعيل مقاربات وخطط أمنية أدامت استتباب أمن الوطن والمواطنين في أقصى الحدود، مع أنه كان رجل المواقف الحرجة والصعبة حيث خوله تكوينه ومراسه وحنكته وعبقريته العسكرية الاحتواء والسيطرة خلال مختلف المهام العسكرية التي قادها.
بشهادة تلامذته العسكريين كان المرحوم مثالًا للضابط الجمهوري، يعتني كثيرا بصحته وهندامه، يولي اهتماما بالعلوم العسكرية وقيم الجندية معرفة وممارسة، انعكست على التشكيلات التي قاد طوال مساره المهني من مركز تدريب الجنود والمنطقة العسكرية الخامسة، مرورًا بالمكتب الثالث، كما أحدث نقلة نوعية في مناهج وبنى تحتية الأكاديمية العسكرية".
لم تشغله مسؤولية عن مسؤولية.
كان نكران الذات صفته المسيطرة، فمع ما ترك من تأثير في نفوس المجتمعات التي طوفته بها مهنته العسكرية، فقد ابتعد أيما ابتعاد عن أي صنف من أصناف الدعاية أو الظهور أمام الشاشات أو عبر أقلام الإعلاميين، وكمثال على ذلك حدثني البعض متعجبا من شدة حرصه على الاختفاء عن الذكر أمام وسائل الظهور المختلفة حيث لم يظهر ذكره كجنرال إلا بعد وفاته رضي الله عنه.
وفي شهادة أخرى من أحد رفقاء دربه في السلاح يقول: كان رضي الله عنه من أكثر القادة فهما وإدراكا وأكثرهم عطاء وابتكارًا ونزاهة وإخلاصا فشكل للمقربين منه مثالًا يحتذى به، ابتعد عن الأضواء، وحفر لنفسه مكانة في صميم الإنسان الموريتاني دون أية دعاية إعلامية وإنما بمحض تعامله وتفانيه في خدمة الوطن من خلال مناصبه التي جعلته ينال عزة ويرتفع مكانة من فترة لفترة ويتلقى من التكريم والأوسمة ما بقي شاهدا على هذا المسار النبيل..
لم تشغله مهامه العسكرية الكبيرة حتى في أوقات الحرج الأمني والضيق عن مسؤولياته كأبٍ حنون مُرَبٍّ شفيق فضَّل لنا السير على نهجه العصامي لا العظامي.. كانت آفاق عقله وتدبيره وإرادته وحيطته في القيام بمسؤولياته المهنية والتربوية والجمع بينهما واسعة وكبيرة، لا تشغله الأولى عن الثانية، فجمع بينهم جمعا على أحسن توفيق.. فعلمنا الاعتماد على الله وعلى النفس ونأى بنا عن مظاهر الترفع والبذخ.. ربانا على نهج: " أنا ابن امرأة عربية تأكل القديد".
علمنا أن ننجج بأنفسنا في الحياة وأن نخوض غمارها بشجاعة دون مساعدة منه إلا في مسارنا التعليمي الذي اجتهد غاية الاجتهاد في إنجاحه،.. 
كان رحمه الله حريصا على إبعادنا عن سياج مساره المهني وعن التشوف للاستفادة من شيء منه أو توظيف سمعته ورتبته في اكتساب استفادات مهما كانت.. 
ظل على ذلك طوال مساره فوظيفته ومكانته لم نل من ريعهما شيئاً أو مكانة حتى بعد رحيله، فكل ما قدمه كان يحتسبه للوطن وخمدته ونفعه وليس إشادة زملائه وقيادة البلاد بذلك إلا وسام صدق في مساره الحافل. 
ذلك غيضٌ من فيض ما أعرفه في والدي الراحل فصدق فيه قوله تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾.
فنتوسل إلى الله دائما وبمناسبة هذه الذكرى ذات التأثير البالغ، بعملك الصالح وإيمانك وحسن طاعتك وخلقك العظيم يا أبي، أن يسكنك فسيح جنانه، وأن يبشرنا فيك بأعظم البشائر وأحسنها في مثواك الأخير وألا يحرمنا بركات تربيتك وأن يبقى سر دينك وأخلاقك وأعمالك باقيا فينا إلى يوم نلتقي نحن وإياك في أعلى فراديس الجنان مع الرفيق الأعلى من الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، آمين يا رب العالمين.
سلام الله ورحماته على جدثك الطاهر.. سلام الله على جدث وارى من المآثر ما يعجز اللسان عن وصفه.. والدي وقرة عيني تمر اليوم ذكرى رحيلك علينا بثقلها ونحن مؤمنون بقضاء الله وقدره.. يخفف وطأة الذكرى اليوم تزامنها مع ذكرى مولد الحبيب صلى الله عليه وسلم إذ لا مصيبة بعده إلا تهون، وهو العزاء لكافة الأمة عليه الصلاة والسلام.
إنا يا والدي على فراقك محزونون؛ ولا نقول إلا ما يرضي ربنا..
فإنا لله وإنا إليه راجعون