الكولونيالية الانقلابية في موريتانيا بين تأزيم الهويات وتأزيم الإنسان. (1/3)- عبد الله محمد ألويمين

غيَّب الموت جل الذين أحبوا موريتانيا منذ استقلالها، وقيد العجز البقية الباقية الصالحة في قيود الوهن والمرض ، ولم يبقى سوى فرقة من الكولونياليين لانقلابيين والطابور الخامس ينخر سوسهم عماد المستقبل ويتوسعون دون توقف في نواحي الحياة الموريتانية.. لقد انفردوا بوطننا كما ينفرد الذئب بالفريسة، وقادوه كما يقود أعور سيارة بلا مصابيح في ليل أسحم، ويبحرون به كما يبحر قراصنة بفلك استولوا عليه بالقوة وهم يمخرون به عباب بحرٍ لا ساحل له، لا يهتدون لليابسة سبيلا ولا للنجاة طريقا.. وكذلك يبحر بنا هؤلاء في بحر الحياة لا يتعظون مهما عصفت من حولهم العواصف وهاج من تحتهم الموج.

والكولونيالية مصطلح إنجليزي يقابل الكلمة العربية (إستعمار)، ولاستعمار لغة هو إحياء الأرض وتعميرها والعمل على رفاهية ساكنتها وإقرار العدل بينهم ونقلهم من وضع سيئ إلى آخر مُنعَّم.

أما اصطلاحا فقد أجمع الكتاب على أنه احتلالٌ لِمكان ما، سواء كان دولة أو إقليما، أو قطعة ارض أو واحة نخيل، واضطهاد أهله وتهجيرهم وتشريد شبابه ونهب خيراته وتحويل حياة ساكنيه إلى جحيم من الذل والتفقير لا يتوقف ولا ينقطع، ومع الوقت وحين تحين لحظات النضال للتخلص من هذا المستعمر وتلك سنة الله في الخلق أن لا حال يدوم على حاله، يتحد المجتمع مع مناضليه ويضرب بيد من حديد لنيل الحرية، بينما وفي ردة فعل موازية ينتهج ذلك المستعمر طرائق شتى في سبيل بقائه، أشهرها بث الفرقة بين الشعب الواحد (فرق تسد) وخلق طوائف جديدة لم تكن موجودة من قبل، وإثارة النعرات بين الناس على أساس إثني وعرقي، وبث الشائعات المخيفة التي تجعل أصحاب الأرض يؤجلون النضال في مقايضة لبها الأمن والغذاء مقابل الخنوع..

وعندما لا تنجح هذه الطريقة، يجنح المستعمر إلى سياسة لاغتيالات والتصفية طورا، وتلفيق الفضائح لقادة النضال طورا آخر، وبث لانحلال الأخلاقي ورعايته حتى يتمكن من خلق جيل من العملاء الماديين الذين يتخلون عن الوطن مقابل النزوات والمال، وكلما تقدم الزمن صار هذا الجيل من العملاء طابور خامس ودويلة عميقة داخل الدولة، يفرقه المستعمر في كل مجال من مجالات العمل داخل البلاد: في المراكز الحيوية من جيش وأمن ومخابرات وشركات، وفي الصحافة والجامعات، وداخل التنظيمات والأحزاب، وحديثا في وسائل التواصل لاجتماعي.

وكلما تقدم الزمن وزادت فترة مكوث هذه الكولونيالية، زادت قوتها أو ضعفت، تزيد قوتها إذا استسلم الشعب لبطشها، وتضعف قوتها إذا وجد المناضلون طريقهم إلى الاتحاد في وجهها واتحدت جهودهم.، ضدها..

إن هذه هي نفس الصورة التي سيشرئب نحوها خافقك ثم يسألك؟: على من تنطبق عليهم هذه المواصفات وترتسمهم تفاصيل هذه السطور بين مسافات أحرفها؟.. سيجيبك خاطرك قائلا: كأنهم حكام موريتانيا اليوم.!.

ليس كأنهم!

بل إنهم هم، وبملامحهم الاستعمارية التي تقبع تحتها موريتانيا مكلومة منذ 1978، تاريخ أول انقلاب ظن الناس أنه بدوافع إصلاحية يومئذ، وبعد أربعة عقود اتضح للناس أنه لم يكن سوى كولونيالية من نوع جديد قادته هذه الطغمة العسكرية الاستعمارية، وكلما قربت لحظة الخلاص منها والتحرر من ربقها والعودة إلى السلطة المدنية، بدلت جلدها كما تبدل أفعى الكوبرا جلدها، ووجدت على أديم الأرض من "بنوا العلقم" من يمهد لها الطريق للعودة من النافذة، ويهيأ لها لاستقرار ويمدها بروح جديدة وما أكثر أرواحها كقطة ذات سبعة أرواح لا تموت..

 إنها رغم كل هذا الطغيان الذي بدى منها على مر العقود لم تتوقف عن إغراق البلاد في اوحال الفساد والبطش الذي يضمن لها لاستمرار والتمدد زمنا طويلا، الله وحده يعلم كيف سينتهي..

لقد جعلت من موارد موريتانيا وخيراتها ملكا لها ودولة بينها وبين أبنائها وقبيلها وعشائرها، وأزَّمت الهويات والإنسان الموريتاني على حد سواء، وإني لأخشى أن تكون أزمات متأخرة على العلاج، لا يمكن البتة أن تتعافى منها موريتانيا إلا من خلال الثورة أو التغيير العنيف..

 

أولا: أزمة الهويات

إن مما جعل موريتانيا تدور في فلك هذا التيه الآخذ في تزايد والذي لا شك أنه بات يجسد خطرا على وجودها واستقرارها، هو عدم وجود ثلاث هويات أساسية بعد الانقلاب على النظام المدني، ـ بغض النظر عن الظروف التي ولدت فيها ومنها الدولة قبل ذلك ـ، ألا وهما الهوية السياسية، والهوية الاقتصادية، والهوية الاجتماعية، إنها بصمات كالجندرية التي تولد وتباض مع المخلوق منذ المخاض، وترافقه إلى الممات، غير قابلة التغيير رغم استثناءات محدودة، وظروف تأسيس موريتانيا منذ البداية كان واضح وعلى مسار سالك الدرب قبل أن يتم إلغاء القواعد التي نشأت عليها البلاد من قبل المنقلبين ويحشرونها على مر أربعة عقود من الزمن في  عنق زجاجة لا مخرج منه، ارتهنت خلاله الدولة للقبيلة والجهة، وبعثت فيه أخلاق الدولة السائبة، وأزمت أوجه الحيواة السياسية ولاقتصادية ولاجتماعية.

 

  • أزمة الهوية السياسية

الهوية السياسية هي مشرط ينحت قسمات البداية التي تنبثق من خلالها الدولة، وتتأثر في الغالب بالحالة الدولية السائدة في الإقليم الذي تقع الدولة ضمنه عند النشأة، فإن ولدت الدولة في ظل صعود تيار سياسي مثل الرأسمالية الليبرالية، أوالشيوعية الاشتراكية، أو الاسلامية، فإن الدولة في الغالب لابد لها أن تتقمص إحدى هذه الأوجه بفعل قوة الجوار أو قوة المد (الانتشار)، الناتج عن تبنى مجموعة من النخب لواحدة من هذه التيارات باعتبار أنها تشكل حلا لمشكلات الدولة ولو لفترة محدودة، مدفوعة دائما بإكراهات الانتماء الإقليمي أو إكراهات التحالفات السياسية القائمة في ذلك الوقت، والتي تتمايز بحسب قوتها العسكرية ولاقتصادية المادية، وفي حالات أخرى فإن هذه التيارات تفرض نفسها على صعيد الدولة عبر الثورات أو لانقلابات، فتولد معها هوية سياسية مغايرة لما كان موجود من قبل، هوية تقوم على مبادئ ونظم إدارية جديدة ومختلفة، وأيا كانت الظروف التي هيأت للتغيير، إنقلابا كان أم ثورة، فإن الهوية السياسية تكون سابقة على نشأة النظام أو مزامنة له، وسابقة على تنفيذ لانقلاب، وسابقة على الثورة، إنها خارطة الطريق نحو تغيير جذري ما، تأخذ جماعة على عاتقها تنفيذها ضد سلطة كانت قائمة فأنهيت.

وغياب هذا الوجه جعل موريتانيا تعيش تيها سياسيا منذ أول انقلاب إلى اليوم، ولذلك أسباب عديدة، منها شخصنة لانقلاب، حيث جاء انقلابا انهزاميا وهروبيا من الحرب لا انقلابا فرضته ظرفية ما، ولم يكن انقلابا هيأت له صراعات أيديولوجية دولية مثل الانقلابات التي ظهرت بسبب الصراع لإيديولوجي الاقتصادي بين الشرق السوفياتي والغرب الرأسمالي الليبرالي، بدليل فشلهم – أي المنقلبون ـ في الانتماء إلى أحد الأقطاب التي تقدم مكتسبات للدولة المنضوية في حلفها، مكتسبات عسكرية ولوجستية لمن اختار المعسكر الشرقي، أو مالية وعلمية لمن انضم إلى المعسكر الغربي، إلا أن الكولونياليين لانقلابيين يومها لم ينتموا إلى أي من الجانبين، واختاروا ابتداع هوية سياسية يشوبها القصور ولارتجال، أخذت من إرث النظام المدني السابق نتفاً، ومن تاريخ دولة السيبة وقواعدها الأميرية جزءا، - ادعى إسلامية الدولة وأخذ منها التسمية مستغلا سمعة سارت بها الركبان قُبلاً نحو الشرق الاسلامي لقلة من المشاهير تعد على الأصابع من علماء الدين الإسلامي الموريتاني، واحتفظ في نظام الإدارة والتسيير بالهوية الفرنسية العلمانية - وهذا هو النتف القليل الذي احتفظ به لانقلابيون من إرث نظام المختار رحمه الله.

هذه (الخليطة) حتمت على لانقلابيين لاحتفاظ  بالسلطتين القضائيين اللتين أسسهما النظام المدني لتساير التغيير داخل المجتمع على فترات من الزمن كنوع من التغيير الفابي، واحدة تحكم محاكمها بالقانون الوضعي، والأخرى بأحكام الشريعة الإسلامية، وكانت صورة أقرب إلى النفاق المؤسس منها إلى تأسيس لهوية سياسية يتطلبها انقلاب يزعم قادته أنهم لجنة للخلاص الوطني، سلكت طريق القوة للوصول بالدولة والشعب إلى الحكم الرشيد.

ومهما كانت المبررات التي سيقت لهذا لانقلاب فإن الحقيقة الوحيدة التي تبدت فيما بعد، هي أنه انقلاب عسكري لإنهاء الحرب والتخلي عن الحوزة الترابية، ولم يكن لذات الأهداف التي علل بها المنقلبون انقلابهم، وزاد هذا لانقلاب من تعقيد مظاهر الهويات السياسية ولاجتماعية ولاقتصادية للبلاد لما طبق الشريعة الإسلامية في عهد محمد خونه ولد هيدالة شكلا لا مضمونا، كنوع من تدارك الوضع والخروج من عباءة النفاق الذي مثلته ثنائية المحاكم، وأيضا حين عاند صندوق النقد الدولي وتقريبه للقبيلة وتمكينها من مفاصل الدولة بعد أن كادت تضمحل قوتها على الأقل في العاصمة نواكشوط التي كانت تمثل مدينة المدنية البعيدة عن تخلف البدو وعجرفتهم.

هذا التغيير الانقلابي واتته الفرصة لبناء هويات للدولة الموريتانية، لكنه ظل يحكم بأنماط وانساق لا سابق لها، وعجز عن التأثر شكلا أو مضمونا بالمحيط الإقليمي الذي يحيطه، فلم يستنسخ منه تجربة واحدة من تجاربه السياسية، لم يستطع أن يؤسس هوية ملكية أو أميرية أو جمهورية حقيقية، ولم ينشأ دستورا جديدا يغير من ملامح الحكم بل احتفظ بما كان قائما، وزاد عليه بكثير من القرارت لارتجالية التي ستدفع موريتانيا ثمنها فيما بعد..