الأستاذ والإداري محمدفال ولد عبد اللطيف شخصية ثرية وذات أبعاد متعددة: تجد فيه موسعية الفتى المحظري النابه، وطرافة الأديب المخضرم، ودقة الإداري البارع، ومنهجية الخبير والمصلح الاجتماعي الذي واكب لتحولات المجتمع الموريتاني في العقود الأخيرة.. و يكشف هذا الحوار الخاص عن جوانب من رؤيته للثقافة والفكر، ويسلط الضوء على زاويا من هذه الشخصية الموسوعية وعن مشروعها الثقافي وإسهاماتها في مختلف جوانب المعرفة.. فإلى المقابلة:
موقع الفكر: لكم طابع خاص في الكتابة النثرية وعززتم حضور الأدب النثري من خلال مقالاتكم ومؤلفاتكم، نود منكم تعليقا حول النثر ومدى حضوره في الثقافة الموريتانية، حيث أن هناك من يعتبر حضور النثر ضامرا أو غير موجود خلافا للشعر الذي طغى في هذه البلاد؟
محمد فال ولد عبد اللطيف: شكرا، يظهر لي أن الحكم على النثر الموريتاني أنه ضامر، إنما بالنسبة إلى الشعر، يوجد النثر والنثر الفني معروف عند الوالد ولد خالنا عنده نثر جيد لا يقل روعة عن الفتح بن خاقان في عقود العقيان، كما أن هناك أيضا مقامات عبدالله الخلالي مقامات حسنة، وثمة الرسائل (ما يعرف يلبروات) يعرض فيها الطلاب عضلاتهم ويوظفون كثيرا من معلوماتهم. وطبعا كان هناك مؤلفون معروفون يمتلكون زمام النثر مثلا الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا ووالده الشيخ سيديا الكبير هؤلاء كانوا يمتلكون زمام النثر، إلا أن هذا كله لم يتفطن له البعض بسبب طغيان الشعر تبارك الله كما وكيفا.
وبالنسبة للنثر أيضا أرى أنه ربما يكون صعبا، أصعب من الشعر ربما ندخل في تفاصيل ذلك لاحقا.
موقع الفكر: ذكرتم أن النثر كان حاضرا بقوة وأنه فقط ضامر ضمورا نسبيا إذا قيس بالشعر.
نود منكم تقديم نماذج من هذا الأدب، النثر خاصة " ابروات التلاميذ"؛ رسالة الطلبة؟
واستحضرهنا نماذج من هذه لبراوت أنا لا أعرف هل هي لائقة (طايبة) لكني سأعرضها أعرف من يكتب على الختمة: خير العطية ما كانت معجلة وأكرم الناس من يعطي على عجل
حتى بعض الأدب غير الفصيح:
عراد ما طات الختم الله يعري متكاه
وأتعود سبته تخم. فخلاص كلت معطاه
استسمح إذا كان المقام لا يسمح بهذا.
محمد فال ولد عبد اللطيف: لا استحضرفي الوقت الحالي نماذج من "أبراوات التلاميد" و أعرف أن منها ما يكتبوه، يرسلوه للنساء لكي يساعدوهم في بنيان خيمة الطلاب ومنه ما يكون هدفه الحصول على بعض المزايا المادية ونحوها.
والجوهري في الموضوع كونه ميدانا يبرهن فيه الطلبة على معرفتهم للنثر.. و من النماذج النثرية المشهورة مقامات عبد الله الخلالي، التي ينحو فيها منحى مقامات الحريري وكذا مقامات المختار ولد حامد، فهي مقامات رائعة تستحق الدراسة، وقد قام الحسين بدراسة لابأس بها لكنها غير كافية، و يستطيع الدارس أن يكشف كثيرا من أوجه العبقرية فيها والإبداع لم يتعرض له الحسين الذي قام بمجهود يذكر ويشكر كما يقال.
ثمة أيضا قضية كرامات الزوايا لمحمد بن والد، قام الدكتور سيد أحمد ولد الأمير بدراسة عليها لابأس بها، هذا ما عندي في هذا الجانب.
طبعا هناك القصص التي أنجزت مؤخراً جميلة لكن نثريتها من نوع خاص فيها الإبداع لكنها ليست مثل النثر الفني بدرجة كبيرة فهي نوع من السرد بشكل سلس لبق نقول نحن البيضان "أملس".
موقع الفكر: ماذا عن موضوع الفيش بين كسكس والعيش، كيف تلخصون المفايشة بينهما؟
محمد فال ولد عبد اللطيف: الفيش عندها أصل فصيح في العربية ويقصد بها المباهاة، ويقول لها العرب أيضا فياش وعندها أيضا معنى آخر لكنه ليس هو المقصود .
و رسالة الفيش حدا بي إليها العبث في تلك الفترة عندما كنت حاكما في مقاطعة مقامة، في فصل الخريف، وصادف أن العمل غير كثير، والإسعاف غير موجود والناس هادئة ومنضبطة، ففضلت أن أستغل فراغي وأن أقوم برسالة فكتبت تلك الرسالة التي تدخل في إطار أدب المناظرات التي يحفل بها الأدب العربي مثل المناظرة بين السيف والقلم والمناظرة بين الليل والنهار، والصيف والخريف..
ومن قرأها ربما لاحظ أنني قصدت أن أوظف فيها بعض المفاهيم والمعطيات المعروفة في الفنون مثل فنون الأصول والنحو والفقه وغيره، الفنون الجدية وظّفتها في الموضوع الهزلي، ربما يكون يُسِرُّ حَسْواً في ارتِغاء
وكل ذلك راجع لرغبتي الخاصة في تعليم المجتمع وتدريسه فأحببت أن أدرس المجتمع بعضا من تلك الفنون دون أن يشعر.
وهذا هو المقصود من ذلك.
أما جانبها "السيسولوجي" أيضا فموجود لأن بعض القراء فهم أن العيش يرمز لوسط اجتماعي معين، والكسكس يرمز لوسط آخر من مجتمع معين هذا لم أكن أقصده أولا لكني لا أتبرأ منه، ويبدو أنه رواية واردة وجميلة ومن قرأ الرسالة في آخرها يعرف أنه كان هناك محضر تصالح اعترفوا فيها أن العيش إنما هو الكسكس، والكسكس إنما هو العيش، إن هي إلا حبة طحنت فبرمت فمنهم من كسكسها ومنهم عجنها.
من قرأ المحضر الأخير يدرك أن ثمة تصالح.
هذا أيضا لم يعد موجودا؛ فموريتانيا أصبحت قرية واحدة بكلامها وعباراتها لم يعد ثمة شيء خاص بأهل العيش و لا بغيرهم وطبعا هما طعامان ترضاهما الأنفس التي قلنا فيها:
ألا إنما العيش والكسكس طعامان ترضاهما الأنفس
فلا العيش أنفس من كسكس لديهم ولا كسكس أنفس
فقط هذا ما عندي.
موقع الفكر: هل أخذت النكتة والطرفة موقعها في النثر الموريتاني على غرار ما تحقق في الشعر على يد أمحمد ولد أحمديوره مؤسس مدرسة الزريكه؟.
محمد فال ولد عبد اللطيف: ما أرى أن النكتة حاضرة في النثر بالدرجة التي وقعت في الشعر، فلا أكاد أتذكر شيئا فيه النكتة إلا ما كان في بعض مقامات الأديب المختار بن حامد ون، التي لا تخلو من النكت والتلميحات، وأما المواضيع الأخرى فغالبها جدي، و قد يوجد في المراسلات الخصوصية بين الأصدقاء أشياء ربما يكون فيها حضور النكتة الموريتانية من باب ملاطفة الأصحاب للأصحاب ومعاتبتهم لهم ومداعبهم فذلك موجود، وهذا ما أتذكر أيضا بالنسبة للمقالات الصادرة في السنوات الأخيرة فهي لا تخلو منه.
وقد حاولت أن لا يخلوا ما أكتب من نهكة فكاهية، فالمقالات التي كنت أمد بها جريدة الشعب، حاولت أن تتضمن شيئا مما يطرب أو يضحك والكثير من الكتاب مثلي في ذلك، فعلى سبيل التمثيل محمد ولد تتا كان يفعل، وغيرهم لكن ليست ثمة كتابات متخصصة، فأدب النكهة غير موجود في النثر.
موقع الفكر: هل يمكن أن نعد النقد الفكاهي أحد الأنواع النقدية ذات التأثير في حياة المجتمع الموريتاني الحديث؟
محمد فال ولد عبد اللطيف: لا شك أن له تأثيرا قويا وليس ذلك خاصا بالمجتمع الحديث، فجميع المجتمعات يلعب النقد الفكاهي فيها دورا مهما، وهذا هو معنى الكوميديا التي كانت موجودة في البلاد الأوروبية ويراد منها إصلاح الأخلاق عن طريق أخرى غير الوعظ الاجتماعي المباشر، وكان عندنا في الأدب الموريتاني الكثير منه، هناك ظرفاء معروفين يقال لهم الظرفاء فكاهيين عندهم مواقف وعندهم قصص ظاهرها الفكاهة وتبطن خلفها النقد الاجتماعي وهذا هو سبب نظم ولد الشيخ سيديا لهزل بني ديمان وذكر منه عينات وقال إن قصب السبق فيه إنه مسلم لباب فال، وذكرنماذج أخرى.
وسبق أن قدمت محاضرة طويلة في مجلس اتحاد الكتاب الموريتانيين، رغم أنهم تعهدوا بطبعها فلم يطبعوها حتى الآن، تعرضت فيها لشيء من هذه الإشكالية والنماذج والنمطية، قلت إن الفكاهة ذات مشارب، منها مشرب عالم ومشرب شعبي ومشرب دون ذلك ومشرب مشترك، ومعناه أن النقد عنده تأثير لا في العصر الحديث فحسب، بل في جميع العصور.
موقع الفكر: لديكم نظرية حول ما تسمونه تبدل القيم بالانتقال من البادية إلى المدينة واتخاذ القيم انزياحا في مدلولاتها، حبذا لو شرحتم لنا هذا؟
محمد فال ولد عبد اللطيف: صحيح، لأن القيم التي كانت تقوم عليها المروءة ينبغي أن تراجع، حيث كان يزور الضيف مرة في السنة أو مرتين فيكرم إكراما يتناسب مع مستواه ويأتي المستجدي فيصدر بالذي يريد، ولكنه كان يأتي مرة أ ومرتين في العام، اليوم ونظرا لسهولة التنقل أصبح بإمكانه أن يأتي في كل يوم وكل شهر ،فينبغي أن تتبدل معايير المروءة حسب المعطيات الجديدة، وهذا يقترب مما قال عمر بن عبدالعزيز أنه تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من "الفجور".
وليس هذا خاصا بالمروءة حتى حق الجار، حق الجار في المدن "المتعقدة" ينبغي أن ينظر فيه بتوأدة وحذر لأنك لو حملت شخصا لا تدري من هو لعله أن يكون مطاردا من طرف العدالة، تحمله أنت لأنه جارك فيظهر أنك أدخلت نفسك في ورطة أنت في غنى عنها.. ومثل ذلك أن تضع قدرا من الماء البارد في الشارع ليشرب منها المحتاجون هذا خطير، لأنه مع غياب الرقيب وانتشار الجريمة يمكن ببساطة أن يدس بها السم فتصبح أنت مسؤولا عن كل ذلك، فهذا الصنيع الجميل إنما يتأتى في القرى المحددة التي يعرف فيها الأهل والجيران بعضهم بعضا.
إذا، الخلاصة أنه ينبغي أن تراجع المعايير والقيم التي كانت سائدة على ضوء المعطيات الجديدة.
وما يحدث في المدينة لا ينسحب على قيم البادية حتى في الفتاوى وحتى في القضاء ينبغي أن تؤخذ الحقائق والواقع المعيشي بعين الاعتبار.
موقع الفكر: ما كتبتموه عن العلك علق بشأنه أحدهم ذات مرة في موقع معين حيث كتب: العلك كاع أثر بأخبار، فهل تتحفنا بطرف من هذه الأخبار؟
محمد فال ولد عبد اللطيف: العلك فعلا له أخبار ، وقد تطرقت في رسالة سميتها: "جيدة السبك في أخبار العلك" تحدثت فيها عن العلك من الناحية التاريخية والناحية الاقتصادية ومن الناحية الأدبية ومن الناحية الفقهية ، تطرقت لكون العلك كان هو المادة التي تتصارع عليّها القوى الاستعمارية وتحدد إلى حد بعيد ميزان القوى داخل الإمارات التي كانت تحكم البلاد، فكانوا يضغطون بها على المستعمر ،وكان المستعمر يتدخل بواسطتها في الشؤون الداخلية.
وتحدثت عنها من الناحية الفقهية من حيث ربوية العلك وعدمها، وما كان من الأخذ والرد بين مختلف الآراء الفقهية، وتحدثت عنها من الناحية الأدبية حيث موسم بيع العلك يشبه في بعجه الثقافي المربد تكثر فيه المساجلات ولقاح الأفكار ، والمساجلات عند المرفأ الذي كان على النهر .
وتحدثت فيه عن بعض المسلكيات وعن ما كان يعرف بالصرف، وهو نوع من التجارة، وعن كيفية وزن العلك وما يتعلق بذلك.
وهذا كله إن "نزلت فيه البركة" يمكن أن يكون أخبارا.
موقع الفكر: كيف هو حديثكم الآن عن "تكوس" في ظل نسبة البطالة المرتفعة في شباب البلد، طبعا لديكم الكتاب الذي ألفتموه عن ظاهرة "الكوس"؟
محمد فال ولد عبد اللطيف: ظاهرة الكوس رسالة سميتها رسالة الكوس، وهي في الحقيقة دليل علمي لمن فرضت عليه الأحوال أن يمارس مهنة "الكوس"، وعندما أقول مهنة فأنا أعي ما أقول كمهنة الكدية التي كانت معروفة زمن العباسيين التي يعزونها إلى رجل كان يسمى ساسان، ولاشك أنكم رأيتموها وأطلعتم عليها في مقامات الخمسين على ما أعتقد من مقامات الحريري حيث يذكرون وصية أوصى بها أهل حرفة الكدية..
وأرى أن رسالة الكوس مازالت سارية المفعول كما يقال، ومعناه أن تلك المعطيات التي تضمنتها ما زالت سارية و يمكن الاعتماد عليها، وهي في الحقيقة نصائح للكائس، نصائح ذات بعد اجتماعي وبعد ربما فلسفي وخلفيتها الأصلية تقوم على بعدين:
- بعد تنفيسي على الكائس "توسعة" الأمور عليه فإنه ليس بدعا فيما يفعل وأن حالة الضرورة تبيح أكثر من ذلك.
- والبعد الثاني هو عرض "اسكتشات" من الحياة الموريتانية ولاسيما في هذ العصر، تعرضت فيها لسبر أغوار بعض الشخصيات "البطارين"، وبعض الحرف المهمة والحالة العامة كما يقال و الجو العام في ثمانينات القرن الماضي في هذه البلاد.
موقع الفكر: ما أبرز فتاوى الشياطين حيث أنكم من خلال هذا العنوان قدمتم للقراء كتابا هادفا ممتعا:
لم ينح ناح نحوه قبله لو أنه الفراء والأبدي؟
محمد فال ولد عبد اللطيف: في الحقيقة لا أدري أي الفتاوي أبرز لأن "الأبرزية" نسبية فهناك شيء يتعلق بالنزاعات العقارية قد يكون أبرز في بعض المناطق من بعض، وهناك ما يتعلق بتكيف البداة مع الحياة العصرية، قد يكون أبرز وهناك فتاوى تتعلق بالمستجدات العصرية وهذه أيضا عندها أبرزية في مكان معين، ولا أستطيع أن أجزم بموضع "الأبرزية" أو أن هناك شيئا أبرز من شيء، ومثال ذلك من يتعرض لنوازل عبد القادر الفاسي ويجزم أو يفضل بعضها على بعض، أونوازل الشيخ محنض بابه أو نوازل ابن الأعمش أن بعضها أبرز على بعض، فكل هذا مفيد وبارز وليس منه شيء إلا وهو مهم..
موقع الفكر: لديكم كتاب عبارة عن مذكرات تشمل مسار الوظيفة وتجاربكم لعلكم تحدثتم فيها عن بعض القراءات والتأملات حول المسؤولين وانعكاس بعض التسميات الإدارية ببعض الصفات ماذا تقدم لنا من تلك القراءات أرجو عدم الإيجاز، يعني الشرح ما أمكن؟
محمد فال عبد اللطيف: أنا حتى الآن ألفت في المجال الذي ذكرتم ثلاثة كتب.
الكتاب الأول، الوالي المساعد، أتحدث فيه عن تجربتي في ألاك كأول منصب أتبؤه، و كان الهاجس هو تبيين حالة الموظف الذي يبحر لأول مرة في معمعان الحياة المهنية بعد أن كان على مقاعد الدراسة، و الهدف منه تزويد خريجي المدرسة الوطنية للإدارة بالمعنويات والمسلكيات التي تمكنهم من تجاوز عقبة هذا الامتحان وهو الخروج من المدرسة والجامعة بمثاليتها الى الواقع المعيش بما فيه من تعقد وبعد عن الأشياء، الدائرة المستديرة وعن المربع الكامل التربيع.
الكتاب الثاني، حاكم مقامة، وقد قال لي الناس إنه من أجمل ماكتبت في هذا الميدان، تحدثت فيه عن تجربتي في مقامة وتعرضت فيه لبعض المسلكيات لدى بعض الموظفين وما يراد بذلك، والمزالق التي قد تتعرض لها الإدارة و ما يحيط بذلك.
الكتاب الثالث سميته: أشهر النعمة وشهور النقمة، تحدثت فيه عن جانبيين من حياتي، شهورٌ قضيتها في مدينة النعمة كوالي مساعد و كنت معجبا بها ثم بعد تخرجي من المدرسة الوطنية للإدارة ،مكثت شهورا لم أعين وأنا أكوس كما يكوس "الكائسون" سميتها شهور النقمة، وهذا الكتاب موجود مطبوع أحيلكم إليه يسمى أشهر النعمة بصفة جمع القلة وشهور النقمة بجمع الكثرة وتحدثت فيه عما أنقم على الإدارة وتحدثت فيه عن شيء من الجور يقع مع المتفوقين في المدرسة، وكثير من الإشكاليات المنوطة والحياة المتعقدة في نواكشوط عند من لا راتب له أو له راتب ضئيل، فكيف يمكن لمن يكون لديه أهل في البادية وأهل في الحضر، وكيف يمكن أن يتدبر نفقة ذلك، وماذا ينبغي عليه، والإكراهات التي تأتي من كل جهة.
موقع الفكر: ماذا عن أثر الجغرافيا في اتصاف كل أھل جھة ببعض الخصائص تبعا للتوزيع الجغرافي "الحالة الموريتانية نموذجا"، من ھذا المنطلق أيضا كيف ھي ملامح ومرتكزات المنظومة الذوقية والقيمية التي طبعت منطقة إكيدي، ماذا عنھا في المقابل منطقة إكيدي فيھا مجتمعات مختلفة الذوق وحتى اللغة. والعادات؟.
محمد فال ولد عبد اللطيف: تأثير المحيط الجغرافي على الأخلاق شأن مفروغ منه تحدث عنه الفلاسفة لاسيما الفيلسوف الفرنسي مونتسكيه حين تحدث في كتابه عن تأثير الأخلاق.
وحتى النظام المذاقي أيضا له تأثيره و ھذا التأثير يطبع كل منطقة بطابعه، فمن يعيشون على الزرع وبشنة يؤثر ذلك على طباعھم ومن يعيشون بتغليت كذلك ومن يكون عذاؤھم مجرد التمر والصيد وكذلك من غذاءهم "الفاصوليا" سيكون طبعھم طبع "أدلكان" ونحو ذلك وھذا أمر مفروغ منه ولا يقتضي أفضلية.
فكل قوم لھم معاشھم وكل قوم لھم طباعھم .
وبالنسبة لأهل إكيدي يدعون والعھدة عليھم أنھم أبرد أعصابا من الناس وأبعد عن الغضب وأنهم لايھزھم جھل الجھول ولايؤزھم ..
وھذا كله قالوه والعهدة عليهم وهناك من يفتخربالعكس، وهذا معروف
وهذا يخضع لاعتبارأن مايظن الناس عن أنفسهم مثل ما قال بعض الأدباء والحكماء أن الأنساب في موريتانيا ثلاثة نسب ھو الواقع ونسب يدعيه صاحبه ونسب ينسبه الناس إليه.
لا يستبعد أن يكون نفس الشيء بالنسبة للمزاج إلا أن منطقة إكيدي قد شاع عنھا في جميع البلاد أنھا منطقة لا تخلو من ماذكرنا من كونها موضوع برودة الأعصاب والعمق وربما التعقد في بعض الأحيان ولكن على كل حال ھذا كله من نوع ماكان سائدا عند العرب في الجاهلية فكان كل فوم لھم شيء ينبزون به وشيء يفتخرون به، ولايتعدى ذلك باب الممازحات لتلطيف الجو، والكلام عن الجغرافيا أرى أنه غير وارد بالمعنى الجغرافي المعروف، ولكن كل منطقة تطبع سكانها بنوع من الطباع والمميزات.
موقع الفكر: نود منكم التكرم بإعطائنا نماذج ومختارات أدبية شعبية وفصيحة مثني مثني، وحبذا لوكان بعضھا من إنتاجكم والبعض من إنتاج أمحمد مثلا أوغيره، إن كنتم تفضلون غيره .
محمد فال ولد عبد اللطيف: نزولا عند رغبتكم الكريمة أنشدكم أبيات لمحمدبن أحمديوره رحمه الله البيتان الأولان ھما :
أشعارنا أھل ھذا العصر باردة لم تشو شيا ولم تطبخ بأبزار
لوأنھم أحضروني أمرها ملحت من بعد ما مكثت شيئا على النار
ومنه
لاتنس ربك في ري ولاظمإ ولا بحضرة ضرغام ولا رشأ
وأذكره منفردا يذكرك منفردا وأذكره في ملأ يذكرك في ملأ
بالنسبة لإنتاج العبد الفقير فأحيلكم إلى كتاب ديوان صدر مؤخرا وإن كان لا يتوفر لديكم فسأحكي لكم قطعة قلتھا عندما جاءني الإشعار بأني سأحال إلى التقاعد فقلت:
رترت جاءت مرحبا رترت صاحبها بالسوء لاينعت
ذريعة الفساد مسدودة عنه فلا يرشى ولا يسحت
إن فاته سعي إلى مكتب تبقى له السبحة والصبحة
والناس ليست عندھم حاجة فيه فلا حول ولا قوة
إن يتقاعس عن ندى أو جدى فلا ملام عذره رترت
راتبه قصر على رزقه ورزق من يجري عليھم "ستو"
ومما قلت أيضا:
في الناس من إن تدعه لقضية فيھا السلامة والصلاح الشامل
لم يبدي أي تفاعل بل ربما كان له عنھا نفور شامل
وإذا رأى فيھا الفلوس فإنه متفاعل متفاعل متفاعل
موقع الفكر: ما أطرف المواقف التي حصلت لكم في ھذا العمر الحافل بالعطاء والذي حافظتم فيه أو طبعتموه بنكهة من الثقافة؟
محمد فال ولد عبد اللطيف: الطرافة في المسارات المھنية الإدارية أرى أنها نادرة لأن جفاف الإدارة واشتغال الناس بأمور سطحية تجعل مجال الطرافة يكاد يكون ضئيلا جدا، وأتذكر إن كان ولا بد من ذكر شيء من ھذا أنني أيام كنت مديرا لشؤون اللوازم والمعدات في وزارة الداخلية، كان هناك أحد السائقين يطالب الوزارة بمبلغ وكنت أسعى له في حصوله فلما حصلت له عليه استدعيته في مكتبي وقلت له إن المبلغ الذي كنتم تطالبون به جاهز، أرجعوا لي غدا أدفعه لكم، قال لي: من نحن؟ إنما هو أنا، فعلمت أن السائقين لا يتأدب معھم، إنما يخاطبون بضمير المفرد، فطمأنته على أنه لا شريك له في المبلغ المذكور وإنما هو تأدبا معھ.
موقع الفكر: ما ذكرياتكم عن أيام الدراسة المحظرية والمدرسية وحياة الناس في تلك الفترة، و ھل تذكر أول صلاة عيد حضرتھا كيف مر عليكم "انھار لكبير" يوم العيد أنتم والمجتمع في تلك الفترة، اللباس ما ھو؟ الفتيات كن يلبسن في تلك الفترة الدراعة السوداء الرجال مازالوا يلبسون "الملكية" و ملحفة التاج النبيلة النميرة..
محمد فال ولد عبد اللطيف: للرد على ھذا السؤال، أول ما دار في ذھني قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما أدركت أبواي إلا وھما يدينان الدين، بمعنى أني لا أتذكر أول صلاة حضرتھا لأن الصلاة كانت عندنا، مارسناھا قبل أن ندرك، كانت تؤدى خارج المخيم.
و الأھم عندي في العيد اللباس الجديد فقط والطبل في المساء و ما سوى ذلك من اعتبارات فلم تخطر ببالي.
بالنسبة للمحظرة أنبه ھنا إلى أننا لم ندخل قط محظرة وإنما كنا في لفريك، أفريك أهل انيفرار، فيه أناس يدرسون رجال يدرسون مختلف الفنون، ليس ھناك مبنى يسمى المحظرة أحيانا يفد علينا ناس من خارج الحي يسكنون في لفريك وليس ھناك مبنى ولا أعرشة ولا خيمة، وعندما يأتون ويقضون في الحي حاجتهم من العلم،أما أھل الحي نفسه فيقرؤون على رجال مشتھرين بالعلم وھناك تخصص اصطلاحي، فذلك يدرس الفقه وذاك يدرس التوحيد وذاك يدرس النحو وذاك يدرس كذا، ولكن كلھم يستطيع أن يدرس، وكل ھذا التخصص اقتضته اعتبارات عملية فقط ھذا إذا لم يأتي العيد ونحن في البادية "نزلات" من المنازل في البادية فلا تقام صلاة العيد بشكل كبير حقيقي وتجتمع النزائل ويحدث نوع من الفلكلور في التجمعات الفركان، وھناك ع نوع من المدح ويأتى بعض الناس وأنا شخصيا حين كنت صغيرا أفضل ما يقع في البادية على ما يقع في الفركان لأن ما يقع في الفركان لايخلو من وقار وحضور الرقيب الاجتماعي وذلك لايحبه الشباب الذين يحبون مكانا تطلق لھم فيه الأعنة..
موقع الفكر: وقعت مساجلات حول ثبوت الھلال عن طريق المذياع ،وأخرى حول الشاي، حبذا لوحدثتمونا ببعض مروياتكم عن ھذا اللون الأدبي؟
محمد فال ولد عبد اللطيف: بخصوص رؤية الھلال ذكرت منه مختطفات في محاضرة في بيت الشعر ولكن لا استحضرھا و لا أحفظها عن ظھر قلب ومحاضرة قلتها في حضور رمضان في الأدب الموريتاني على روي اللاء فيھا الأدلاء ولا أتذكرها ..
أما بخصوص "الشاي: فأتذكر وأنا صغير أن ھناك مقطعات طوال لعلماء مثل الشيخ محمدوحامد ولد آلاء والشيخ محمدوالنانه...
أتذكرھا وأنا صغير عندنا بحط جيد جدا لا أدري خط من، وكنا نقرؤھا ولا نفھم كثيرا مما فيھا لأن بها إحالات تفوتنا ونحن صبيان على أن مشكلة الشاي "أتاي" لم تطرح عندنا بالإلحاح الذي تطرح فيه ببعض المناطق، فحلية شرب الشاي أمر مفروغ منه وإنما كنا نتلقى تلك القصائد على أنھا إنتاج أدبي يظھر فيه الشاعر براعته وكيف يوظف المعلومات للبرھان على الأطروحة التي يدافع عنها ولكن القناعة قناعة الجميع ھو أنه لا مجال لتحريم الشاي ولاكراھة فيه بل ربما كان مندوبا عند بعضھم.
موقع الفكر: إذا لم تخني الذاكرة، ليس عندكم كتابات عن واقع التعليم، رغم أن واقعه الآن ھو الذي نعاني منه و تعاني منه الدولة الموريتانية والشعب الموريتاني وأنتم أشرتم لبعض من ھذا على مستوى القيم
ما تعليقكم على واقع التعليم الحالي وواقع المناهج الدراسية؟
محمد فال ولد عبد اللطيف: بالنسبة للمناهج التعليمية لست مؤهلا للحكم عليھا لأني لست من أھل القطاع ولست من أھل التربية.
أما تقييمي لمنتوج المخرجات الموجودة فلاشك أن التعليم بحاجة إلى أن يبذل فيه الكثير من الجھد علما أن ھناك مقاربتان:
المقاربة النوعية والمقاربة الكمية.
المقاربة النوعية ھو إنتاج نوعية جيدة على حساب درجة التمدرس .
المقاربة الكمية ھو أن نمحي الأمية عن أكبر قدر ممكن.
والسعادة كل السعادة أن نوفق في الجمع بين ھذين الإعتبارين.
منهم من يقول إن مستوى التعليم قد تدنى عن ما كان عليه في الستينات، وأنا أرى أن ھذا حكم جائر وقاس؛ ففي الستينات ما كان الناس يرغبون فى الدراسة ولايسألون الدولة شيئا أيا كان، وإنما كانت ھناك قلة قليلة من المتحضرين والواعين ھم 10%، والدولة كفيلة بتوفير التعليم لھم على أحسن ما يرام .
أما بعد أنتشار الوعي وأصبحت الدولة دولة وطنية وكذا وكذا..فأصبح الجميع يطمح إلى أن يتمدرس أبناؤه ويحصل على تعليم يؤهله لوظيفة. ربما سبب ذلك نقصا مما يلزم أن يصاحب الإقبال على التعليم من تعبئة الموارد والأخذ بالنصوص.
بالجملة لا استطيع تقييم المناھج و لا أقدر أن أحكم عليها، ولكن يمكن أن أحكم على مخرجات التعليم بأنھا دون المستوى جدا جدا.. وذلك يقتضي مراجعة بعض الأمور لا أدري ماھي.
موقع الفكر: أمحمد بن أحمديوره صاحب ثقافة عجيبة ولكن عنده بعض المصطلحات لايعرفھا إلا ھو مثل حديثه عن أخروف أخروفه ،ومثل "تسعا كما قد قال كابون" ومثل كما "يغمز الطبل "ومعايرته لبعض القبائل دون البعض..
وحب بني ديمان للعيش دائما
وحب بني يعقوب رسل العلائل
إلى آخره، فما تعليقكم؟
محمد فال ولد عبد اللطيف: حسب نظري أن أمحمد رحمه الله كان أدرى بما يقول و"العوان لا تعلم الخمرة" كما تقول العرب.
موقع الفكر: لديكم قطعة شعرية تعرفون فيھا بشخصكم الكريم، نريد منكم أن تسمعونا إياها تكرما؟
محمد فال ولد عبد اللطيف: فعلا، تلك التي تناقلتها وسائل الأنباء كما يقال أوتناقلتھا المواقع وقد عنونتھا بعنوان عرض حال لا عرض تعريف، و الفرق بين عرض الحال وعرض التعريف معروف في الإدارة وھي تتضمن فصولا عن شخصيتي المتواضعة ،أقول في أولها:
يا من يسائل عن حالي بإيجاز اسمع فدونك عنه مؤجز جاز
إني أمرؤ من بني البيضان من فئة قد أسست في المعالي فخرھا الرازي
من معشر عرفوا بالحلم مذ عرفوا والعلم مر عليھم غير مجتاز
منھم أنا غير أني لست مثلھم فدون إيجازھم في المجد إيجاز
ولم أقدم من الأعمال محمدة بھا يؤسس تبريزي وإبراز
شربت من لغة الإفرنج عن عطش حتى تضلعت من مشروبھا الغاز
كما تعلمت ألغاز أفك بها ما في الإدارة من سر وألغاز
فوقي وتحتي ولا أمتاز عن أحد بشيء إلا بكوني غير ممتاز
وفي عيب فإني غير منفتح ولا أفرق بين الجرك والكاز
وعيب آخر أني لا تنھنيھني دراعة الإزب عن دراعة الكاز
ھذا ماتذكرت منھا.
موقع الفكر: ما المشاريع الثقافية التي يعمل ضيفنا الكريم على إنجازها في المستقبل خاصة وأنه الآن عنده من جھة تقاعد عن الوظيفة ومن جھة ثانية عنده تأريخ حافل بالعطاء والتجربة أضافت لفكره لمعانا وبريقا وزادته نضجا وفكرا؟
محمد فال ولد عبد اللطيف: ليس عندي مشروع معين، ولكن عندي مشروع بعض من الأعمال أقوم بھا تدخل كحلقة من المذكرات إن شاء الله، والآن بصدد كتاب عن حياتي في المدرسة الابتدائية في أنيفرار وفي احسي المحصر، محصر أھل محمد لحبيب؛ أسجل فيھا مذكراتي فيھا .
صدر لي مؤخرا كتاب كتاب "إمضاء المطية لتحصيل الطية في المضاف والمطلوب في الثقافة" تم طبعه وهو الآن عند المكتبة الإسلامية، وھنالك مشروع بعيد وأرجو أن يوفقنا الله له، و قد حدثت عنه بعض الأصدقاء وھو مشروع يوميات الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة أحاول فيه أن أحصر ما أمكن حسب ما يتوفر في المصادر، مما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في شھر كذا في يوم كذا في كذا، ھذا يمكن أن يحصل عليه في تقطيع كثير من النصوص أرجوا أن يوفقنا الله له.
موقع الفكر: في نھاية ھذا اللقاء نطلب منكم نصيحة عامة وخاصة للشباب مستوحاة ومستلھمة من تجاربكم المتميزة تكون كالخلاصة من الخصاصة، إن شاء الله تكون كالخلاصة لتجربتكم بارك الله فيكم ونفعنا وإياكم..
محمد فال ولد عبد اللطيف: أنصح الشباب بكثرة المطالعة وأن يكونوا من أھل حب الاطلاع وعدم القناعة بما حصلوا عليه.. فلاينبغي أن يتوقفوا فإنھم لو توقفوا لأتتھم الهواتف ھذا الذي تطلبه أمامك، عليهم أن يواصلوا التعلم ويدركوا نسبية الأمور، وھذا يعطيھم أنفتاحا وسعة صدر عندما تحصل، ھذا ماعندي.. طبعا والتوكل على الله والتعويل على الله أيضا لابد منه لابد أن تكون ثمة جرعة من التعويل على الله وسؤاله الإعانة.
في نھاية ھذا اللقاء أتقدم بإسمكم جميعا بالشكر الجزيل وعظيم الإمتنان لضيفنا الكبير القامة الوطنية الثقافية محمد فال ولد عبد اللطيف على ما تقدم به وتكرم من إجابات وافية من جھة وعلى سعة صدره شاكرين له كريم تعاونه أسألالله عز وجل لنا وله قبول الأعمال واستجابة الدعاء والتوفيق للخير وخير العمل .
وأنا كذلك أشكركم وأظل تحت تصرفكم وإنه لشرف لي عظيم أن يكتب إسمي مع إسم هؤلاء الأخيار وأرجوا لھم التوفيق إن شاء الله وأشكرھم