ثلاثة مواويل في ذكرى حبيب (2)- ذ محمدٌ ولد إشدو

 الموال الثاني التأبين

ماميتو لا يبكي ..*

ماميتو لا يبكي.. بل ينتصب شامخا كالقلم الحر.. إن جاز التعبير..وقد لا يجوز!

فالقلم لا يكون إلا حرا. وإضفاء وصف عليه لغو وحشو.

"نون والقلم.."

لا يضفي القسم الكريم وصفا على ما أقسم به.

يكفي أنه القلم!

حبيب وبعض رفاقه كانوا يدركون ذلك:

سموا سلاحهم السحري الفتاك: "القلم"!

لم يضيفوا إليه وصفا يميزه عن مختلف ما في السوق من بضاعة.

* * *

ما قيل في القلم يصدق في "المثقف".

لا يقال "مثقف حر" ولا "مثقف ملتزم".

المثقف لا يكون إلا حرا وملتزما..

فمفهوم "المثقفون"الذي ولد في أوروبا وروسيا، قبل غيرهما، مع قضية دريفس سنة 1898 في فرنسا، وثورة 1905 في روسيا، لا يعني الكتبة والمدرسين والمذيعين ومنعشي السهرات الخ.. بل يعني الفلاسفة والمتكلمين: الأنتليجانسيا الذين ينتقدون الدولة والمجتمع، ويطالبون بالعدالة والحقيقة، باسم الإنسانية التي تعاني، والتي تستحق السعادة. (محمد عابد الجابري: المثقفون في الحضارة العربية. وراسل جاكوبي: نهاية المثالية).    

        حبيب أحد هؤلاء "المثقفون".

        هذا هو سر خلوده..

        وهو معنى اجتماعنا ووقوفنا هذه الليلة إجلالا لنوع يندر وجوده في أزمنة الانحطاط.

        * * *

        تعلموا من ماميتو.. يا من تؤبنون حبيبا..

        لا تبكوا حبيبا.. بل تعلموا منه:

        تعلموا منه أن تتعلموا.

        جردوا أقلامكم.. كما جرد قلمه في وجه الهمجية.

        اعملوا شيئا، أي شيء، من أجل شعبه وأرضه.

        ساهموا، كل على قدره، في خلق شروط نهضة ترفعنا، ولو إلى أدنى حد من الإنسانية.

        بذلك توفونه قدره، وتجعلون موته حياة، وذكراه بداية ميلاد "الثقافة" هنا.

        * * *

        في كثير مما كتب عن الرجل إساءة إليه، جرت بحسن نية: "أعظم الرجال، وأنبل الرجال...".. "حبيب الذي بموته مات كل شيء"

        كأني به يبتسم مطرقا: لا، لا..

        حبيب لا يحب تنميق وبهرجة الكلام، ولا يرتاح أبدا للجمل الرنانة الفارغة.

        إنه من فصيلة أخرى،

        فصيلة تعاني،

        تنزف،

        تغمس الريشة في الشريان،

        تكتب عن مأساة المجتمع والأرض...تساهم في إزاحة الليل، تطلع النهار، وتمحو الأمية الحضارية.

        في دينه: الكتابة مأساة أو لا تكون!

        * * *

        خسئ المبطلون، الذين يحاولون حشر هذا الفارس الساطع في جحر ضيق، ويلبسونه اللون الأصفر كما لو كان رأس لائحة بلدية، ويستثمرونه في مشاريع طائفية، وقبلية، هو منها براء.

        "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا"؟       

        أللبدر لون غير لونه الفضي الناصع الأصيل من غير مساحيق أو رتوش مستعارة؟

        أويختار البدر من يمنحهم ضياءه وصفاءه؟

        كلا.

        والغيوم التي تحجب عنا رؤيته أحيانا، أو تجعلنا نراه بلون غير لونه، إنما تتلبد في عيوننا وعقولنا. أما هو فيسافر، يسافر في الأعالي، يغمر الكون، كل الكون، ضياء وحبا.

        رحم الله حبيبا! 

 

________________________________________

* ألقيت هذه الكلمة في حفل تأبين أقيم بعيد وفاة المرحوم حبيب بفندق مرحبا.

وماميتو تمثال كان ينتصب في مقر جريدة "القلم" أيام الراحل حبيب، وقد اكتسب دلالات متعددة حينذاك.