إخراج الفرقة الموسيقية:
ولكن إخواننا - سامحهم الله - لم يقدُروا الأمر قدره، وأرادوا أن يعاملوا هذا البلد كأنه بلد إسلامي، يحاسب على الكبيرة والصغيرة والشبهة. وكان أشدهم في ذلك شيخنا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والدكتور محمود الطحان العالم السوري وأستاذ الحديث بالكويت، وبعض من نسيت اسمه، ثم لم يكتفوا بالقول، فترك جماعة منهم مائدة العشاء، وخرجوا تباعًا، مما جعل المحافظ يسأل: ما الأمر؟ فأخبروه: أنَّ المشايخ يعترضون على وجود الفرقة الموسيقية! قال: إنما أردنا تكريمهم. ثم أمر بإخراج الفرقة من المكان.
عودة الشيوخ وهدوء ثائرتهم وغضب المحافظ:
وهنا عاد الشيخوخ الغاضبون، وهدات ثائرتهم. ولكن الذي ثار باطنه على الجميع هو المحافظ الذي أنهى العشاء، وقد بدا عليه التأثّر والغضب، وإن لم يقل شيئًا، وصافحنا وانصرف. وفي اليوم التالي، طلب من الجميع أن يعودوا إلى طشقند في المساء، بعد أن كان سمح لهم بالبقاء ثلاثة أيام في سمرقند، ومن أراد البقاء أكثر فلا حرج عليه. وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل إن المشروع قد توقف بعد ذلك، ولم يسر إلى الأمام خطوة واحدة، وأظنه انتهى إلى الإخفاق.
وقفة نقد وتحليل:
وهنا يقف المرء وقفة نقد وتحليل لما حدث. هل كان الأمر يستحقّ هذه الغضبة المُضَرِيَّة من المشايخ العلماء؟ ألم يكن هناك من الأعذار والمخفِّفات ما يستوجب موقفًا أخف وأيسر من موقف الإنكار الشديد؟
إنَّ الأمر الذي أنكره المشايخ ليس منكرًا مجمعًا عليه، بل هو منكر مختلف فيه قديمًا وحديثًا، وحسبنا أن رجلًا مثل ابن حزم يتمسك بظاهر النصوص وحرفيتها، لم يجد عنده نصًّا من قرآن ولا سنة يحرِّم الغناء والآلات «الموسيقية». ويكفي أن نقرأ كتابًا مثل «نيل الأوطار» لنرى الخلاف منتشرًا بين الأئمة والفقهاء في سائر العصور، في الغناء بآلة وبغير آلة.
ومن القواعد المتفق عليها: أن لا إنكار في المسائل المختلف فيها. وقد ألفت في الموضوع كتاب «فقه الغناء والموسيقى» رجَّحت فيه أنه لا يوجد نص صحيح الثبوت، صريح الدلالة، على حرمة الموسيقى. وقد الف عدد من العلماء المعاصرين انتهوا إلى ما انتهت إليه.
ومن ناحية أخرى: كان يمكن السكوت على هذا المنكر - لو سلمنا بمنكريته - لجملة أسباب، منها: ظروف البلد الذي يستضيفنا، وأنه خارج من شيوعية سافرة حكمته نحو سبعين عامًا، وأننا ضيوف على هذا البلد، وأننا نحاول إقامة مشروع نرجو له النجاح، وأن الرفق في معالجة الموقف أولى من العنف، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه.
ثم هذا أمر عمَّت به البلوى في داخل بلاد المسلمين التي نعيش فيها، ولا نستطيع أن نمنعه، وعموم البلوى من أسباب التخفيف والتيسير فيه.