كيف نجعل من التراث رافدا تنمويا؟- الشيخ أبو محمد محمد الحسن الجوادي

تعرِّف منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو) التراث بأنه "الإرث الذي تركه لنا الماضي، والذي ننعم به اليوم، وننقله لأجيال الغد. وهو نبع حياة وإلهام لا بديل له".

وتسعى الدول لحماية وصون تراثها الثقافي والطبيعي وفقا لاتفاقية حماية التراث التي اعتمدتها اليونيسكو سنة 1972.

ولا شك أن موريتانيا، انطلاقا من تنوعها الحضاري وتاريخها الثري، تزخر بتراث ثقافيّ مادي ذي قيمة كبيرة، تتجسد في وجود مواقع أثرية، وتقاليد ثقافية وفلكلورية سياحية كبيرة.

ومن ضمن تلك المواقع تأتي مدننا الأثرية على رأس القائمة (ولاته، شنقيط، تيشيت، ودان)، وكذلك المدن والمواقع القديمة التي لم تجد بعد ما يكفي من الحفر والبحث بغية إخراج مكنوناتها الأثرية، مثل كمبي صالح، وآدواغوست، وآزوكي، وتيكماطين، والغلاوية، وآغريجيت...).

كما أن البلاد تحتضن تراثا لا ماديا لا يقل قيمة في ثرائه. نذكر، في هذا الصدد، المواسم الدينية السنوية (في النمجاط، وانولكي، مثلا)، بالإضافة إلى تقاليد الطبخ الخاصة في المجتمعين العربي والإفريقي، وأنواع الموسيقى والفنون التي ما تزال موجودة بشكلها التقليدي في شتى المجتمعات، ناهيك عن المخطوطات العامرة بشتى العلوم (التشريعية واللغوية، وحتى الطب التقليدي والتنجيم). مع العلم أن النحت الصخري والرسم الحجري ما يزالان يضفيان مسحة من الجمال في جبال آدرار وتكانت، وهما يمثلان عامل جذب كبير للسياح والمهتمين بتاريخ الشعوب.

والحقيقة أن تثمين وترقية التراث الثقافي، المادي وغير المادي في موريتانيا، يمكن أن يضمن الازدهار على مستوى الأفراد والجماعات بما له من مردودية مادية عندما يكون في لب السياسات التنموية الوطنية.

لأن التراث يعد، بحد ذاته، مهمازا للتنمية، مع أنه ركيزة تواصل، وتبادل ثقافي وحضاري بين مكونات المجتمع؛ ما يجعل المحافظة عليه والسعي لترقيته ضرورة تنموية يلزم وضعها في الحسبان.

ومن أجل تحويل المخزون التراثي الموريتاني إلى عامل تنمية للمجتمع وللبلاد، يبدو من اللازم، في مرحلة أولى، تنظيم ورشات يشارك فيها المختصون حول سبل ترقية هذا القطاع، فكما اعتمدت موريتانيا أو شرعت في اعتماد استراتيجيات وطنية، منها المتعلقة بالحد من الكوارث، ومنها المتعلقة بالحماية الاجتماعية، ومنها المتعلقة بترقية وحماية حقوق الانسان، فإنها مدعوة -في أعقاب الورشات المذكورة- إلى اعتماد استراتيجية وطنية لحماية التراث الثقافي والمحافظة عليه وتثمينه.

كما سيكون من المهم للقطاع المكلف بالثقافة والتراث أن يقوم بعملية جرد، ورصد، وتصنيف، وأرشفة لقائمة المواقع الأثرية، والتراث المادي، والمنتوج التقليدي؛ بغية تسهيل التعريف به على الصعيد الدولي، وهو ما سيساعد على إيجاد شركاء ومهتمين أجانب يمكن أن يشكلوا رافدا ماديا واقتصاديا مهما. فالتراث الثقافي الموريتاني لابد أن يتحول إلى ثروة مادية ملموسة من أجل جعله محركا حقيقيا للتنمية، وذلك من خلال تعبئة الوسائل اللوجستية والمالية والبشرية الكفيلة بتحقيق ذلك.

ولعل البلاد تحتاج إلى متحف رقمي، يعرض مواد التراث الوطني بالتعليق والصورة -غير المتحركة- وبالفيديو، مما سيساعد -عبر شبكة الانترنيت- في بيع المنتوج التراثي القابل للبيع، كالصناعات التقليدية، ويخلق شراكة مفيدة مع المتاحف والمعارض الدولية ذات الصلة.

وإن البحث عن مورد مالي متمخض عن السياحة الثقافية يستوجب، من جانبه، وضع برامج تهدف لتثمين وترقية وصيانة المحميات الطبيعية الوطنية (حوض آركين، ومحمية جاولينغ). فهذان الموقعان، الثريان بالتنوع البيئي وبالطيور والأسماك والحيوانات، ما تزال مردوديتهما على الساكنة متواضعة بفعل غياب سياسة ترمي إلى تسويقهما عالميا.

كما سيكون من المهم جدا وضع مخطط لتسيير التراث المادي واللامادي، خاصة أن بعضه يتعرض للتأثيرات السلبية لتغيّرات المناخ، مما يهدد التراث الطبيعي والتاريخي والثقافي بالاندثار والتلاشي البطيء.

وسيكون من المفيد، عبر صيغ ترقية القطاع التراثي وجعله ذا مردودية، دعم الابتكار في مجال التراث طبقا لما تنص عليه الأهداف التنموية المستديمة للأمم المتحدة.

ويبقى الامل -في هذا الصدد- معلقا على "هيئة التراث الموريتاني بمكوناتها التراثية، والثقافية، والتنموية، والصناعات الحرفية، والمعارف العلمية" بعد أن أخفقت كل الجهات الخادمة للتراث –وعبر الانظمة المتعاقبة- في خدمة التراث الثقافي الموريتاني، ومنحه العناية اللازمة، وابرازه في حلة تليق به.

فالأستاذ محمد الشيخ ولد سيدي محمد، صاحب "مشروع قناة المحظرة"، ومدير المركز الموريتاني للدراسات الاستراتيجية والتنمية المستدامة والمسح الشامل؛ له الباع الطويل في عمل وخدمة كل ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، فالخبرة التراكمية، والقدرة على التنفيذ، والارادة الصادقة، والرصيد المعرفي الثر، كلها أمور كفيلة منطقيا بإنجاح مشروعه التراثي الثقافي..