أولا: سياق المعركة
سياق وقعة صفين لا يختلف كثيرا عن سياق وقعة الجمل، ذلك أن سياق كلا المعركتين تميز بانفصام عرى الشرعية، وتخلخل دعائم الوحدة، مع الخلاف والتبيان في ترتيب الأولويات، بين من يرى أولوية أخذ القصاص من قتلة عثمان، وبين من يرى الأولوية للوحدة ورص الصفوف، يبدو ذلك جليا من خلال المراسلات التي جرت بين معاوية وعلي ورضي الله عنهما، حيث كان يرى معاوية الأولوية للأخذ بثأر عثمان رضي الله عنه، وأخذ القصاص من قتلته، في حين أن عليا رضي الله عنه كان يدعوه للبيعة، وذلك أن عليا لما انصرف علي من البصرة، أرسل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية، فكلم معاوية، وعظم أمر علي ومبايعته، واجتماع الناس عليه، فأبى أن يبايعه، وجرى بينه وبين جرير كلام كثير، فانصرف جرير إلى علي فأخبره، فأجمع على المسير إلى الشام، وبعث معاوية أبا مسلم الخولاني إلى علي بأشياء يطلبها منه، منها أن يدفع إليه قتلة عثمان، فأبى علي، وجرت بينهما رسائل([1]).
عن الزهري قال لما بلغ معاوية غلبة علي على أهل الجمل دعا إلى الطلب بدم عثمان فأجابه أهل الشام فسار إليه علي فالتقيا بصفين([2]).
وإن كان المستجد الذي ظهر بإلحاح مع وقعة صفين هو بروز النزاع على الولاية، والخلاف حول الأحق بالخلافة، ذلك أن معاوية مع مطالبته وإلحاحه على الأخذ بثأر عثمان لم يكن يرى عليا الأحق بالخلافة، فقد كان يرى الزبير أحق بالأمر، والزبير قد قتل في وقعة الجمل، مما يمكن أن يكون سببا في بروز الطموح لديه في مزاحمة علي على الأمر، ومنازعته فيه، وذلك أن عليا بويع بالخلافة قال له ابنه الحسن وابن عباس: اكتب إلى معاوية فأقره على الشام، وأطمعه فإنه سيطمع ويكفيك نفسه وناحيته، فإذا بايع لك الناس أقررته أو عزلته، قال: فإنه لا يرضى حتى أعطيه عهد الله تعالى وميثاقه أن لا أعزله، قالا: لا تعطه ذلك. وبلغ ذلك معاوية فقال: والله لا ألي له شيئا ولا أبايعه، وأظهر بالشام أن الزبير بن العوام قادم عليهم، وأنه مبايع له، فلما بلغه أمر الجمل أمسك، فلما بلغه قتل الزبير ترحم عليه وقال: لو قدم علينا لبايعناه وكان أهلا([3]).
فقد بقي معاوية رضي الله عنه على إصراره في شأن قتلة عثمان رضي الله عنه، مع منازعته عليا في الخلافة، واستمراره في رفض المبايعة له، وذلك أنه لما قتل عثمان، كتبت نائلة زوجته إلى الشام إلى معاوية كتابا تصف فيه كيف دخل على عثمان وقتل، وبعثت إليه بقميصه بالدماء، فقرأ معاوية الكتاب على أهل الشام، وطيف بالقميص في أجناد الشام، وحرضهم على الطلب بدمه، فبايعوا معاوية على الطلب بدمه([4]).
أما علي فإنه لما انتصر على أهل الجمل، ودان له أهل البصرة والكوفة وغيرهم من الأمصار بالطاعة أراد أن يخل أهل الشام إلى بيت الطاعة، ويلزمهم جادة الصراط المستقيم، وبحبوحة الجماعة، فسار من البصرة إلى الكوفة قال أبو الكنود عبد الرحمن بن عبيد فدخلها علي يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين فقيل له: انزل بالقصر الأبيض، فقال: لا! إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله فأنا أكرهه لذلك، فنزل في الرحبة وصلى في الجامع الأعظم ركعتين، ثم خطب الناس فحثهم على الخير ونهاهم عن الشر، ومدح أهل الكوفة في خطبته هذه، ثم بعث إلى جرير بن عبد الله- وكان على همذان من زمان عثمان- وإلى الأشعث بن قيس- وهو على نيابة أذربيجان من زمان عثمان- أن يأخذا البيعة على من لك من الرعايا ثم يقبلا إليه، ففعلا ذلك. فلما أراد علي رضي الله عنه أن يبعث إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه إلى بيعته قال جرير بن عبد الله: أنا أذهب إليه يا أمير المؤمنين فإن بيني وبينه ودا، فآخذ لك منه البيعة، فقال الأشتر: لا تبعثه يا أمير المؤمنين فإني أخشى أن يكون هواه معه. فقال على: دعه، وبعثه وكتب معه كتابا إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته، ويخبره بما كان في وقعة الجمل، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس. فلما انتهى إليه جرير بن عبد الله أعطاه الكتاب فطلب معاوية عمرو بن العاص ورءوس أهل الشام فاستشارهم فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو أن يسلم إليهم قتلة عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتل قتلة عثمان بن عفان رضى الله عنه. فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا، فقال الأشتر: يا أمير المؤمنين ألم أنهك أن تبعث جريرا؟ فلو كنت بعثتني لما فتح معاوية بابا إلا أغلقته. فقال له جرير: لو كنت ثم لقتلوك بدم عثمان. فقال الأشتر: والله لو بعثني لم يعننى جواب معاوية ولأعجلنه عن الفكرة، ولو أطاعني قبل لحبسك وأمثالك حتى يستقيم أمر هذه الأمة، فقام جرير مغضبا وأقام بقرقيسياء، وكتب إلى معاوية يخبره بما قال وما قيل له، فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم عليه. وخرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من الكوفة عازما على الدخول إلى الشام فعسكر بالنخيلة واستخلف على الكوفة أبا مسعود عقبة ابن عامر البدري الأنصاري وكان قد أشار عليه جماعة بأن يقيم بالكوفة ويبعث الجنود وأشار آخرون أن يخرج فيهم بنفسه، وبلغ معاوية أن عليا قد خرج بنفسه فاستشار عمرو بن العاص فقال له: اخرج أنت أيضا بنفسك، وقام عمرو بن العاص في الناس فقال: إن صناديد أهل الكوفة والبصرة قد تفانوا يوم الجمل، ولم يبق مع علي إلا شرذمة قليلة من الناس، ممن قتل، وقد قتل([5]).
وقد قال أبومسلم الخولاني لمعاوية: أنت تنازع عليا في الخلافة أو أنت مثله قال لا وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما وأنا بن عمه ووليه أطلب بدمه فأتوا عليا فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان فأتوه فكلموه فقال يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي فامتنع معاوية فسار علي في الجيوش من العراق حتى نزل بصفين وسار معاوية حتى نزل هناك وذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثين فتراسلوا فلم يتم لهم أمر فوقع القتال([6]).
ثانيا: وقائع المعركة
كانت بداية وقعة صفين أن معاوية رضي الله عنه لما بلغه فراغ عليّ كرم الله وجهه من مقاتلة أهل الجمل ومسيره إلى الشام، خرج من دمشق حتى ورد صفين في نصف المحرم، وصفين
صحراء ذات كدى وأكمات، فلما ورد عليهم علي أراد منهم الرجوع إلى الطاعة والدخول تحت البيعة، فلم يفعلوا([7])، ثم إنهم وقعت بينهم مقاتلة بسبب الماء، حتى اصطلحوا على أن يردوا الماء سواسية، فكانوا يزدحمون عليه.
وقد وقع بينهم قبل القتال نحو من سبعين زحفا في ثلاثة أيام من أيام البيض، وقتل من الفريقين ثلاثة وسبعون ألفا، وآخر أمرهم ليلة الهرير، وهو الصوت شبه النياح، فنيت نبالهم، واندقت([8]). رماحهم، وانقصفت سيوفهم، ومشى بعضهم إلى بعض وتضاربوا بما بقي من السيوف وعمد الحديد، فلا تسمع إلا غمغمة، وهمهمة القوم، والحديد في الهام، فلما صارت السيوف كالمناجل تراموا بالحجارة، ثم جثوا على الركب فتحاثوا بالتراب، ثم تكادموا بالأفواه، وكسفت الشمس من الغبار، وسقطت الألوية والرايات، واقتتلوا من بعد صلاة الصبح إلى نصف الليل، وذلك في شهر ربيع الأول، وكان عدد أصحاب عليّ مائة وعشرين، أو ثلاثين ألفا، وأهل الشام مائة ألف وخمسة وثلاثين ألفا([9]).
ولما بلغ معاوية أن عليا قد خرج بنفسه استشار عمرو بن العاص فأشار عليه بالخروج بنفسه. وقام عمرو بن العاص في الناس فقال: إن صناديد أهل الكوفة والبصرة قد تفانوا يوم الجمل، ولم يبق مع علي إلا شرذمة قليلة من الناس، ممن قتل أمير المؤمنين عثمان، فالله الله في حقكم أن تضيعوه، وفي دم عثمان خليفة الله فلا تطلوه. وكتب إلى أجناد الشام فحضروا، وعقدت الألوية والرايات للأمراء، وتهيأ أهل الشام وتأهبوا، وخرجوا أيضا إلى نحو الفرات من ناحية صفين - حيث يكون مقدم علي - وسار علي، رضي الله عنه، بمن معه من النخيلة قاصدا أرض الشام([10]).
فعند ذلك نشبت الحرب بينهم، وأمر علي بالطلائع والأمراء أن تتقدم للحرب، وجعل على يؤمر على كل قوم من الحرب أميرا، فمن أمرائه على الحرب الأشتر النخعي- وهو أكبر من كان يخرج للحرب- وحجر ابن عدي، وشبيث بن ربعي، وخالد بن المعتمر وزياد بن النضر، وزياد بن حفصة، وسعيد بن قيس، ومعقل بن قيس، وقيس بن سعد، وكذلك كان معاوية يبعث على الحرب كل يوم أميرا.
ودارت رحى الحرب بينهم وجالوا في الشاميين وصالوا، وتبارز الشجعان فقتل خلق كثير من الأعيان من الفريقين([11])
وكان ممن قتل من صف معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وقتل عمار وهو في صف علي رضي الله عنه، وقد ذكر أن عمارا لما قتل قال علي لربيعة وهمدان: أنتم درعي ورمحي، فانتدب له نحو من اثني عشر ألفا، وتقدمهم على ببلغته فحمل وحملوا معه حملة رجل واحد، فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية وعلي يقاتل ويقول:
أضربهم ولا أرى معاوية ... الجاحظ العين عظيم الحاوية
قال: ثم دعي على معاوية إلى أن يبارزه فأشار عليه بالخروج إليه عمرو بن العاص فقال له معاوية: إنك لتعلم أنه لم يبارزه رجل قط إلا قتله، ولكنك طمعت فيها بعدي، ثم قدم على ابنه محمد في عصابة كثيرة من الناس، فقاتلوه قتالا شديدا ثم تبعه علي في عصابة أخرى، فحمل بهم فقتل في هذا الموطن خلق كثير من الفريقين لا يعلمهم إلا الله وقتل من العراقيين خلق كثير أيضا، وطارت أكف ومعاصم ورءوس عن كواهلها، رحمهم الله. ثم حانت صلاة المغرب فما صلى بالناس إلا إيماء صلاتي العشاء واستمر القتال في هذه الليلة كلها وهي من أعظم الليالي شرا بين المسلمين، وتسمى هذه الليلة ليلة الهرير، وكانت ليلة الجمعة تقصفت الرماح ونفذت النبال، وصار الناس إلى السيوف، وعلي رضي الله عنه يحرض القبائل، ويتقدم إليهم يأمر بالصبر والثبات وهو أمام الناس في قلب الجيش، وعلى الميمنة الأشتر، تولاها بعد قتل عبد الله بن بديل عشية الخميس ليلة الجمعة- وعلى الميسرة ابن عباس، والناس يقتتلون من كل جانب فذكر غير واحد من علمائنا علماء السير- أنهم اقتتلوا بالرماح حتى تقصفت، وبالنبال حتى فنيت، وبالسيوف حتى تحطمت ثم صاروا إلى أن تقاتلوا بالأيدي والرمي بالحجارة والتراب في الوجوه، وتعاضوا بالأسنان يقتتل الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان، وكل واحد منهما يهمر على الآخر ويهمر عليه ثم يقومان فيقتتلان كما كانا، ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس من يوم الجمعة وهم كذلك وصلى الناس الصبح إيماء وهم في القتال حتى تضاحى النهار وتوجه النصر لأهل العراق على أهل الشام، وذلك أن الأشتر النخعي صارت إليه إمرة الميمنة، فحمل بمن فيها على أهل الشام وتبعه علي فتنقضت غالب صفوفهم وكادوا ينهزمون، فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح: وقالوا، هذا بيننا وبينكم قد فني الناس فمن للثغور؟ ومن لجهاد المشركين والكفار، وذكر أهل التاريخ أن الذي أشار بهذا هو عمرو بن العاص، وذلك لما رأى، أن أهل العراق قد استظهروا في ذلك الموقف، أحب أن ينفصل الحال وأن يتأخر الأمر فإن كلا من الفريقين صابر للآخر، والناس يتفانون. فقال إلى معاوية: إني قد رأيت أمرا لا يزيدنا هذه الساعة إلا اجتماعا ولا يزيدهم إلا فرقة، أرى أن نرفع المصاحف وندعوهم إليها، فإن أجابوا كلهم إلى ذلك برد القتال، وإن اختلفوا فيما بينهم فمن قائل نجيبهم، وقائل لا نجيبهم، فشلوا وذهب ريحهم.
فلما رفعت المصاحف قال أهل العراق: نجيب إلى كتاب الله وننيب إليه، وتوقف القتال وآل أمرهم إلى التحكيم ([12]).
عن الزهري قال لما نشر أهل الشام المصاحف بمشورة عمرو بن العاص حين كاد أهل العراق أن يغلبوهم هاب أهل الشام ذلك إلى أن آل الأمر إلى التحكيم ورجع كل إلى بلده إلى أن اجتمع الحكمان في العام المقبل بدومة الجندل وافترقا عن غير شيء([13]).
[1] تاريخ الإسلام ت تدمري (3/ 538).
[2] فتح الباري لابن حجر (13/85-86)
[3] تاريخ الإسلام ت تدمري (3/ 537)
[4] البداية والنهاية ط الفكر (7/ 253)
[5] البداية والنهاية ط الفكر (7/ 253)
[6] فتح الباري لابن حجر (13/85-86)
[7] شذرات الذهب في أخبار من ذهب (1/ 211)
[8] شذرات الذهب في أخبار من ذهب (1/ 211)
[9] شذرات الذهب في أخبار من ذهب (1/ 212)
[10] البداية والنهاية ط الفكر (7/ 256-257)
[11] البداية والنهاية ط الفكر (7/ 265)
[12] البداية والنهاية ط الفكر (7/ 271-272)
[13] فتح الباري لابن حجر (12/ 285).