في إطار مواكبة موقع الفكر لمجريات الساحة الوطنية، وسعيا منه إلى إطلاع المتابعين الكرام على تفاصيل الأحداث، بتحليل متوازن، ونقاش متبصر، نلتقي اليوم مع أحد أبرز السياسيين، ممن خبروا دروب السياسة والعمل الحكومي- حيث تقلد عدة وظائف سامية وزيرا لعدة حقائب وزارية وسفيرا بعدد من السفارات الموريتانية - نلتقي معه اليوم لنستجلي من خلاله ما وراء الخبر... في لقاء شامل يتناول بعض القضايا المتعلقة بالشأن الموريتاني في المرحلة التي واكبها،و لنستجلي من خلاله ما وراء الخبر... في لقاء شامل يتناول بعض القضايا المتعلقة بالاقتصاد الموريتاني في المرحلة التي واكبها، والظروف التي تسلم فيها وزارة الصيد، وسياسة الممانعة والرفض التي انتهجها الرئيس الأسبق محمد خونه ولد هيداله تجاه شروط مؤسسات التمويل الدولي، وكذا سياسة الاقتراض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وطريقة معالجة الحكومة للديون التي ورثتها عن الأنظمة السابقة، كما يتناول اللقاء بعض القضايا والأمورالهامة التي تناولنا ها في لقائنا مع ضيفنا الكريم الوزير التقي بن سيدي.
موقع الفكر: نود منكم تعريف المشاهد بشخصكم الكريم؟
الوزير التقي بن سيدي: بسم الله الرحمن الرحيم، شكرا جزيلا وأهلا وسهلا بكم، أنا أرى أن أي شخص سبق وأن شغل مسؤولية في الدولة يجب عليه أن يتحدث من حين لآخر إلى الشعب بالأحداث التي شهدها فهذا واجبه على كل حال.
سأقول لكم عدة أشياء، منها أنني لم أكن يوما سياسيا، فلم أمارس السياسة أبدا، فلم أكن عضوا في أي حزب منذ بداية مسيرتي إلى نهايتها، فأنا حر، أقول رأيي بكل تجرد ولست مرتبطا بأي شيء، وإذا كان شخص قد تقلد مسؤولية كبيرة من مسؤوليات الدولة فيجب عليه أن يفكر دائما بالطريقة التي سيتعامل بها مع المواطنين، و أعرف أناسا، أحزابا معينة أو وزراء يأتون إلى المجتمع الموريتاني الذي لم يبلغ المواطنون فيه مستوى كاف لفهم الرسائل إلا إذا كانت بطريقة واضحة، ويحدثونهم بلغة ليست هي اللغة المفترضة أن يخاطبوهم بها كأن يلقي أحدهم خطابا جميلا باللغة العربية الفصحى أو بلغة فرنسية جيدة، لكن مستوى هؤلاء الناس المخاطَبين لا يسمح لهم بفهم هذه الرسائل، فمن كان يريد أن يبلغ رسالة لا بد له أن يتكلم بلهجة واضحة للناس يمكن أن يفهموها وإلا فإنهم سيصفقون له على أشياء لم يفهموها، وبالتالي لم يبلغ رسالته، وأنا صريح بطبعي.
فقد عملت في وزارة الخارجية 1962م. بطلب من وزير الخارجية آنذاك وكنت في تلك الأيام في نواذيبو أنتظر نتائج امتحان المعهد للدراسات العليا في باريس، فأرسل إلى وزير الخارجية وقال لي يا فلان أنا أعرفك وأعرف أعمامك وهم أصدقائي، و أود منك أن تزورني في نواكشوط لأحدثك في بعض الأمور الهامة، فلما أتيته قال لي: نحن بدأنا إنشاء وزارة للخارجية - وكان هذا بداية الاستقلال- ونبحث عن كادر لتكوين هذه الوزارة ورشحناك لهذا المنصب ونتمنى منك أن تقبل الانضمام إلينا، قلت له لا مانع عندي إلا أني أريد أن أواصل إجرائي للامتحان وذلك سيفيدني ويفيدكم ، ذهب شيخنا رحمة الله عليه وحل مكانه ولد الديين وفي آخر تلك السنة تم تشكيل وفد متجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد طلب مني مرافقتهم للمشاركة في فعاليات المؤتمر، فذهبت معهم.
هذه هي البداية، وعندما قضيت شهرا في نيويورك، وبعد إعلان النتائج كنت من بين الناجحين وتحتم علي الذهاب إلى باريس فتركت الوزارة، وأكملت تكويني بعد سنتين في مجال الدبلوماسية وفي هذا المعهد تدرس الحقوق، والبروتوكول، والاقتصاد، والسياسة، ويدرس فيه الأساتذة الجامعيون، والسفراء السابقون... فنجحت ولله الحمد، وكنت الموريتاني الوحيد في تلك الدفعة وكنت متفوقا في الامتحان.
وبعد ذلك عدت إلى موريتانيا وعينت مديرا لإدارة الشؤون السياسية والاقتصادية في وزارة الخارجية، وبعدها كنت أتنقل في سفارات البلد في الخارج، فعينت سفيرا في عدة دول، أولها ألمانيا، ثم السويد، و الدنمارك، لأنتقل بعد ذلك إلى السفارة في دكار.
وبعد ذلك العديد من الدول ومنظمة الوحدة الإفريقية، ثم بعد ذلك حولت إلى مدريد، ثم إلى بروكسل وأصبحت سفيرا معتمدا في الاتحاد الأوروبي وعند ممالك بلجيكا وهولاندا ولوكسمبورغ، وفي فترة انتقالي بين سفارة مدريد وبروكسيل تم استدعائي إثر الانقلاب على الرئيس محمد خونه بن هيداله.
وكان معاوية زميلي في الدراسة وحصلنا على شهادة الباكلوريا في نفس العام، فالتحق هو بالجيش أما أنا فأكملت دراستي، فعينوني وزيرا للاقتصاد، وفي تلك الأثناء التي استدعيت فيها كانت العلاقة سيئة مع المنظمات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبعض الممولين الآخرين لأسباب عدة منها اتخاذ بعض القرارات كقطع أيدي السراق وأشياء مثل هذا، ولم يكن ذلك مما يعجب الغربيين أو يرضون عنه و على كل حال أتيت هنا والوضع الاقتصادي مترد، وكانت العلاقات مع الممولين الدوليين كصندوق الدولي والبنك الدولي متوقفة والمديونية في ازدياد مطرد، فكلفني الرئيس ولد الطايع بمهمتين أولاهما هي محاولة إعادة جو الثقة الذي كان سائدا من قبل بين موريتانيا والممولين وأساسا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والممولين الآخرين.
وثانيهما خفض المديونية وحاولنا أن نجد حلا للمديونية، فنحن كما تعلم لم نكن في لائحة الدول الفقيرة التي ليست لها إمكانيات فتلك الدول المعترفة بفقرها لا تحصل إلا على مديونية خفيفة وتمويل بشروط ميسرة فارتفعت مديونيتنا بسبب محاولتنا للبقاء في لائحة الدول الغير فقيرة، فعقدت أول اجتماع في باريس شمل جميع الممولين سواء الممولين الغربيين أو الممولين العرب وحصلنا فيه على ما كنا نريد، فحققنا فيه زيادة في التمويلات بشروط معينة غير صعبة وبقيت مشكلة المديونية؛ لأن الانضمام للائحة الدول الفقيرة كان لا بد فيه من المرور عبر الأمم المتحدة، والحسم فيه يحتاج تقريرا من الجمعية العامة إذا قبلته يمكن الانضمام إلى اللائحة وإذا رفضت نظل مثل ما كنا ولا بد من إيجاد طريقة لتسديد الديون، ولن تحصلوا على قرض إلا بشروط صعبة، فذهبت حاملا رسائل لبعض الدول منهم رئيس فرنسا ورئيس الحكومة الألمانية، ورئيس الحكومة الإسبانية، ورئيس الجزائر، وكان منهم أساسا رئيس حكومة النمسا ولأن النمسا هي من قدمت لنا القرض الذي بنيت به مصفاة النفط في نواذيبو.
ودخلنا في تلك المبادرة وبعد نجاحنا فيها قبلوا أن يخففوا عنا المديونية وأن تكون القروض الجديدة بفوائد محدودة وكان هذا انفتاحا على الممولين ووجدنا حلا للمديونية وحللنا هاتين المشكلتين، فناداني الرئيس وقال لي: أنت نجحت في مهمتك نجاحا باهرا جزاك الله خيرا، والآن أريد أن أكلفك بوزارة الصيد وكان ذلك منتصف من 1985م.
موقع الفكر: ماذا عن القروض التي حصلتم عليها؟
الوزير التقي بن سيدي: نحن كان لدينا مشروع استثماري قدمناه في الاجتماع بباريس، وكان القرض الأول الذي حصلنا عليه بقيمة 500 مليون دولار مصروفة في قطاعات عدة منها: الزراعة، والصيد، والتنمية، والتعليم، وحصلنا على ما كنا نطمح إليه من التمويلات وزدنا عليه وكان أكثره هبات ونسبة القروض منه قليلة، وكانت هناك شروط لا بد من تحقيقها وبغير تلك الشروط لن تحصل على قروض ولا تمويلات، كانت هناك شركات للدولة بلا مردودية، كشركة كانت للنقل العمومي لم نربح منها شيئا مع أنها تستنزف ميزانية الدولة فصفيناها، كما فعلنا مع شركة (سمار) و أعددنا برنامجا تضمن تخلص الدولة من الشركة على أن تباع نسبة كبيرة منها للبنوك أو رجال الأعمال والنسبة الأخرى لأي مواطن يرغب في الاستثمار فيها، وزعناه بهذه الطريقة كي تكون هناك فرصة للشعب وأظنه كان الثلث، لكن أحد الوزراء أفسد ذلك كله وباع الشركة لمجهولين، وأنا بصفتي وزيرا للتخطيط امتنعت عن التوقيع على الأمر، وتم تنفيذه؛ لأنه وقع من طرف الوزير المعني مباشرة وبان تجاهله لقرارات البنك الدولي، لأنه كان يجب أن يكون البيع عن طريق إعلان مناقصة فتباع الشركة لمن دفع أكثر، و كنا نريد أن نمكن الجميع من المساهمة في هذه العملية لأنها من مال الشعب الموريتاني ويجب أن يستفيد منه الجميع، خاصة الضعفاء ،ولكن ذلك لم يحصل، وتزامن ذلك مع مغادرتي للوزارة.
موقع الفكر: يوم وصول الرئيس معاوية إلى الحكم كان كلغ. الأرز ب13 أوقية، وكانت شركة "سونمكس" توفر المواد الأساسية، وكان سعر صرف العملة مرتفعا، فنظام هيداله في تلك الفترة له بعض الإنجازات، مثل اكتتاب الكثير من الأساتذة في سلك الوظيفة العمومية، وبعد وصول الرئيس معاوية إلى السلطة توقف التوظيف، فقد كان القضاة يوظفون من المعهد العالي بشكل منظم ومثلهم الأساتذة وتوقف كل هذا، وتم الاحتيال على الراتب لدرجة أنه بعد الانقلاب أصبح كلغ. الأرز ب27 أوقية، إذن، فقد تم الاحتيال على رواتب الموظفين، ولم يصحب ذلك زيادات معتبر في الرواتب فهل كان هذا من ثمرات التعاون مع المؤسسات الدولية؟
الوزير التقي بن سيدي: أنا غادرت السلطة قبل "سونمكس" و لم أكن موافقا على تلك القرارات، والكثير من الشائعات لم تكن صحيحة، لن يفرض على أي كان إلا ما قبل به، ولكن يجب أن يتوفر فيك من الذكاء والمعلومات والقوة ما تقنع به الناس، فالممولون عندما تقنعهم أنك على الطريق الصحيح يسيرون معك فيه ولكن عندما تعجز عن إقناعهم فلديهم أيضا طريقتهم الخاصة هذه هي الإشكالية، والممول والدولة ليس محتما عليهم الاتفاق في اللقاء الأول أو الثاني أو الثالث، لكن تجب مواصلة الحوار حتى تتمكن من إقناعهم أو تعجز عن ذلك، لكن يجب على الإنسان معرفة قدراته فأنت لا يمكن أن تفرض شيئا على إنسان أقوى منك، وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها من المؤسسات لا بد من التعامل معها باحترافية وصبر، وطول نفس.. وعندما يكون التعامل مع الأمر فقط بالغضب وقطع العلاقات فهذا تصرف خاطئ، خاصة إن كانت الدولة دولة ضعيفة مثل دولتنا لا يمكن أن تعاملهم بصبر، و الدول الأقوى منا لا يمكن أن تفعل هذا معهم، فالإنسان يجب أن يتعامل بحرفية مع الناس حتى يحصل على مراده أو يحصل على أكثر ما يمكن الحصول عليه أما أن تبدأ باختلاق المشاكل أو الانجرار وراء رؤية الشارع، فالشارع بعيد عن الواقع، وقرارات الدولة لا بد فيها للمسؤول من الالتزام بمسؤوليته، والعلاقات مع الممولين أدرى أنت بها من الشارع، فالشارع همه أن يبقى السعر المباشر للكلغ. ثابتا، إذا كان يشتريه بالأمس ب200 أوقية وأصبح اليوم بأربع مائة أوقية, ودور المسؤول معرفة ما يجب فعله، إذا لم يكن للمواطن دخل ولم يكن له قوة اقتصادية يواجه بها هذا الوضع فمن واجب المسؤول إيجاد طريقة ما تخفف عنه ولكن هذا دائما ما الكثير منه الشائعات وهي غير حقيقية.
موقع الفكر: هل أسقطت دولة النمسا ثمن مصفاة نواذيب؟
الوزير التقي بن سيدي: نعم، صحيح، ولكن هذا سببه سوء التسيير، وهذه القروض وجدت قبلنا من زمن المختار ولد داداه رحمه الله، وفي ذلك الزمن كان سيدي ولد الشيخ عبد الله رحمه الله وزيرا للاقتصاد والعديد من الأطر الآخرين في فترة تأميم "ميفارما" والخروج من البنك الفرنسي وهذا من قديم الزمان، وكانت هناك عدة قرارات خاطئة نتيجة سوء التسيير منها على سبيل المثال مصنع السكر وسبب كل هذا أن المسؤولين لم يقوموا بدورهم الواجب فلم تكن هناك حاجة لمصنع السكر، فكان يمكن الحصول عليه بثمن يسير بدلا من أخذ قرض كبير سيعود عليك بالخسارة، وكشركة "صونادير" التي أفلسها سوء التسيير و سبب إنشائها هو محاولة إنجاح القطاع الزراعي لأننا كنا نريد تطوير القطاع وتم تنفيذ المشاريع من قبل الصين وكوريا وفسد كل هذا بسبب سوء التسيير، فنحن لا نقبل الاعتراف بما جنينا على أنفسنا ونحاول إلقاء اللوم على الآخرين، هل كنا نملك "سينبوريم"؟ بل أتى بها الصينيون فلماذا أفسدت وأعطيت لأفراد؟ هذا غير لائق، نحن دائما نلقي اللوم على الآخرين ولا نقبل أبدا أن نكون المسؤولين عن الخطأ وهذه الثقافة متجذرة في دولتنا مع الأسف، فنجهد لإقامة مشروع ثم نفسده ونبيعه لأفراد وهذا غير لائق والأنسب منه عدم أخذ القرض من الأساس.
موقع الفكر: ما ذا عن ديون الكويت التي يقال إنها تضاعفت في زمن العسكر بشكل عام وخاصة أيام الرئيس معاوية لتصبح الآن أكثر من ملياري دولار؟
الوزير التقي بن سيدي: هناك مشاكل سياسية نحن لا نعترف بها، كقضية العراق والكويت؛ لأن كل الأمور تؤثر عليها العلاقات السياسية، وكما أسلفت من كان أقوى منك يجب أن تحاول معه دائما إيجاد طريقة للتفاهم ، فإذا ظهر للممول أو المقرض أنك لم تتصرف معه التصرفات التي كان يتوقع لن يدخر جهدا للإضرار بك، وسبب هذا أنه لم يتم تسديد الأقساط وله أبعاد سياسية، فإذا كان هناك ممول كان يمول المشاريع وتوقف عن ذلك فهنالك سبب سياسي أو اقتصادي لا بد من الاعتراف به، فإذا كان هناك قرض موقع لا بد من زيادة فوائده سنويا بنسبة محددة وتاريخ محدد فإذا تأخر التسديد أو تم تجاهله سيطالبون بدينهم لأنه يجب تسديده، فإذا كنت تريد مواصلة الاستدانة، والتعامل يجب عليك التسديد، والكويت هي أول دولة عربية ساهمت في احتياط البنك المركزي ب20 مليون دولار ولم تطالب أبدا بدينها وهي غير محتاجة إليه أو ليس مهما بالنسبة لها، لكن المشكلة ليست الكويت بل هي أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وباقي الممولين رأوا أننا لم نسدد ديون الكويت فامتنعوا عن الاقتراض لنا بسبب الديون المتراكمة، وأنا دائما أقول إن الدول وخاصة الكبرى منها إذا كنت تريد الوفاق معها لا بد من القبول ببعض التنازلات؛ لكي يدوم الوفاق، فإذا رفضت ذلك لن تحصل على التمويلات ولا القروض وهذه هي حقيقة الساحة الدولية التي يرفض الناس الاعتراف بها.
موقع الفكر: ما سبب أزمة ديون الكويت؟
الوزير التقي بن سيدي: كما قلت لكم سلفا إننا اتخذنا قرارا ووافقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة وصنفتنا من ضمن الدول الفقيرة التي لمديونيتها سقف محدود ويجب إعفاء نسبة كبيرة من ديونها، نحن لم نتعامل مع ملف ديون أزمة الكويت ببرودة بل لم نسدد الأقساط أصلا وكان هذا بعد مغادرتي للحكومة لأنه أيام مغادرتي تم التغلب على مشكلة المديونية والتمويلات، وأصبحت الفوائد الربوية على القروض لا تتجاوز 2%.
موقع الفكر: بعد تسلمكم لمهامكم في وزارة الصيد كيف وجدت الوضع فيها؟ .
الوزير التقي بن سيدي: وزارة الصيد لم ألبث فيها كثيرا، والوضع لم يكن جيدا لأسباب منها أنه كان فيها وزير نزيه ومستقيم وهو اسلم بن باباه رحمه الله، وقال إنه لن يحرك ساكنا في الوزارة ما لم يطلع على جميع مشاكلها ويعد تقريرا ويعرضه على مجلس الوزراء الذي كنت من ضمن الحاضرين فيه، وكان هذا التقرير من أجمل التقارير التي قرأت لكن الرئيس قال إن التقرير غير جيد فرد عليه الوزير بأنه تقرير جيد وأقيل في اليوم الموالي وأظن أن إقالته كانت بسبب نميمة من معارضين للوزير وفي الصباح ناداني وقال لي: أنت يجب أن تتولى وزارة الصيد، وخلفني في وزارة التخطيط اشبيه بن الشيخ ماء العينين، وكان هناك الكثير من الأمور التي لم تكن تحصل مع المختار بن داداه رحمه الله لأنه كان نزيها ولا يقبل لأي موظف ألا يكون نزيها، فإذا اختلس أحد أوقية من مال الدولة يرجعها إلى الخزينة أو تتم إحالته للسجن مهما كان مستواه.
وعدت إلى وزارة التخطيط للمرة الثانية 1993 حتى 1995 وحققت فيها الكثير من الإنجازات فكما تعلمون كان الوضع أفضل بسبب نقص المديونية وانتهاء أزمة الممولين وتسهيلات أخرى، أما تخفيض قيمة العملة أو ارتفاعها فلسنا نحن المعنيين به، بل هو أمر اقتصادي بين البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمسؤول عنها البنك المركزي، ولست على علم بأي تخفيض، فالبنك المركزي تابع لرئيس الجمهورية ولا يتبع للوزارة ربما نتشاور ونجتمع معهم لكن هناك الكثير من الأمور الخاصة التي لا نتبادلها.
موقع الفكر: من المسؤول عن تقديم التقارير المزيفة لهيئات التمويل دولية؟
الوزير التقي : أما بالنسبة للتقارير التي كانت تصل إلى المنظمات الدولية فهناك جانب منها من مسؤولية البنك المركزي، وجانب آخر من مسؤولية وزير الاقتصاد، فإذا اتفقا على التقارير يكون الأمر جيدا، وإذا لم يتفقا فإن كل منهما يتحمل مسؤوليته، ومع ذلك لا ينبغي أن يتعارض تقرير البنك المركزي مع تقرير وزارة التخطيط؛ لأن الحكومة يجب أن يكون لها موقف واحد، ففي تلك الفترة كان القائمون على البنك المركزي يحاولون معرفة بعض المعلومات فأمتنع عن التصريح بها وأكتفي بالقول لهم أنتم أحرار في عملكم أما أنا فلن أعطي أي معلومة؛ لأن علاقتي مع المؤسسات الدولية مبنية على الثقة، فهم لديهم ثقة في؛ لأنني لا أكذب عليهم ولا أزور لهم الحقائق وإذا حاورتهم أحدثهم فقط بالحقيقة، فهم لديهم العديد من الوسائل وإذا أحسوا أنك تزودهم بمعلومات مغلوطة فلن يثقوا فيك وهذا لا يليق أصلا، وفي الحقيقة أنا دبلوماسي ولم أحظ بالعمل في الحكومة إلا بفرص قليلة ولا أمارس السياسة.
موقع الفكر: هل صحيح أن الوزير الأول سيدي محمـد ولد بوبكر هو من أقنع الممولين بدعم البرامج الاقتصادية الموريتانية؟.
الوزير التقي بن سيدي: صحيح، فأنا كنت في الحكومة إبان تولي ولد بوبكر الوزارة الأولى فقد عينت في تلك الفترة وزيرا للتخطيط، فهو لديه القدرات التامة على القيام بهذا من الناحية الاقتصادية وهو ذكي جدا ولديه مؤهلات علمية ولا يقوم إلا بالأمر المناسب، والأمر غير المناسب لن يفعله وهذه شهادتي فيه.
موقع الفكر :هل كان ولد الطائع يتدخل للوزراء في ملفاتهم؟
الوزير التقي بن سيد: طبعا معاوية يتدخل ولكن ينصت أيضا للعديد من الناس والنيات تختلف وهذه هي مشكلة الرؤساء وهي أنهم يستمعون إلى كثير من الناس يتحدثون في مصلحة الوطن والشعب أو ضدها وهذه هي المشكلة، لا بد من إنسان قوي ويفرض على من يخاطبه ألا يخبره إلا بالحقيقة.
موقع الفكر: أيهما أكثر نزاهة في نظركم محمد خونه بن هيداله أو معاوية بن سيدي أحمد الطائع؟
الوزير التقي بن سيد: كلاهما نزيه، فقد كنا زملاء في الدراسة فكان ولد هيدالة يكبرنا بعام وكنت أنا ومعاوية في نفس القسم وكلنا في نفس المدرسة، أما الأمور المفتعلة من أطراف أخرى هي التي لا بد أن يكون صاحبها قويا، وبنظري أنهما كانا قويين، فولد هيدالة صارم في النزاهة، ومعاوية صارم أيضا لكن كثرة الناس الذين يحملون إليه الكلام بغرض الإفساد ربما يقع في قلبه منه شيء وهذا الأمر خطير، وهو أكثر الرؤساء مدة في سدة الحكم ، فقد تجاوز فترة المختار ولد داداه بسنتين.
موقع الفكر: ماذا أنجزتم في وزارة الصيد؟
الوزير التقي بن سيدي: أنا لم ألبث فيها إلا قليلا، والوزير الذي كان قبلي أمضى فيها ستة أشهر يدرس الوضعية وترك لي ذلك التقرير وأنا عملت به، وما كان يقوم به رجال الأعمال الكل على علم ودراية به، ولا بد فيه من صرامة من الوزير ورئيس الحكومة، في تلك الفترة بداية لم يكن هناك وزيرا أول، ثم عين وزير أول، فالوزير الأول إذا كان قويا فتلك نعمة، فالوزير الأول دوره تسوية الأمور، فالوزير الأول في الدستور الموريتاني ليس رئيس الحكومة هو فقط وزير مختار من طرف الرئيس يمنحه بعض الأحيان بعض صلاحياته لكنه ليس رئيس الحكومة فرئيسها الرئيس نفسه وهذا هو الذي ينص عليه الدستور الموريتاني، فالوزير الأول يعينه الرئيس حصرا لكي يتولى التنسيق بين الوزراء ويبلغهم بكل شيء، وهناك دول أخرى في دساتيرها الوزير الأول يعين فقط بعد حصوله على الأغلبية في البرلمان.
وفي الفترة التي قضيتها وزيرا للصيد كانت لدينا الكثير من المشاكل، وأبرمنا اتفاقيات مع العديد من الدول، والمشاريع التي تم تمويلها من طرف الكويت مثلا وهناك نقطة سياسية جوهرية وهي أن الكويت هي أول دولة عربية مدت لنا يد العون، والكويت تقع بين العراق وإيران، كما أننا نحن نقع بين الجزائر والمغرب فنحن دولتان صغيرتان بين دولتين كبيرتين، وهم لديهم الكثير من الخيرات ونحن أضعف من ذلك، لكنهم يفهمون موقفنا والوضع الذي نعيشه.
وبعد وقوع الحرب بين العراق والكويت فإن الناس كما تعلم كانوا أكثر تأييدا للعراق، ونحن كان يجب إن أردنا التدخل بين دول شقيقة أن تكون بصفة سرية، من كان يريد أن يتعامل مع الدول لا بد له من الكثير من الأشياء التي لا نملكها، لا بد للشخص المسؤول أن يكون واقعيا، نحن الموريتانيين لا يمكننا أن نحارب فرنسا، ولا المغرب، ولا الجزائر، إذن يجب أن نكون واقعيين ومن لم يكن واقعيا لا يمكنه فعل شيء.
موقع الفكر: لماذا برأيكم دولة السنغال دائما تحاول التحرش بموريتانيا؟
الوزير التقي بن سيدي: أولا يجب أن تكون هناك قراءة صحيحة لجميع المشاكل فالسنغال علاقته مع الغرب قوية وعلاقته مع العالم العربي أيضا قوية، ونحن في الحقيقة في علاقاتنا لا نثبت على موقف، فإذا لم تكن ثابت الموقف لا يمكن الاعتماد عليك؛ لأنك تارة هنا وتارة هناك، فلا بد من الرجوع إلى التاريخ الموريتاني، ففي زمن الاستعمار كانت مشاكل موريتانيا مرتبطة بالسنغال، فحاكم موريتانيا كان يقيم في اندر وعماله أساسهم سنغاليون، والفرنسيون يستدعون أمراءنا وشيوخنا فقط إذا كانوا بحاجة إليهم وعندما يلتقون بهم لا يناقشون مشاكل موريتانيا وما تحتاجه، بل يدفعون لهم ما يجب دفعه ثم يرجعون؛ ولهذه الأسباب كان تمثيل موريتانيا ضعيفا وظللنا على هذه الحال حتى أيام الاستقلال، ونحن في تلك الفترة لا نمتلك عاصمة، عندنا جانب من مدينة "اندر" يسكن فيه حاكم موريتانيا والجانب الآخر يسكنه حاكم السنغال، وعندما حصلنا على الاستقلال رحل السنغاليون إلى دكار.
أما بالنسبة للأزمات التي واجهتنا في تلك الفترة، ففي زمن الاستعمار كانت عندما تحدث مشاكل على مستوى النهر سواء الضفة الموريتانية أو الضفة السنغالية لا يتم تبليغ الحكومات عنها، بل يسوي المشكلة الحاكم نفسه إن كانت من قضايا الصيد أو الزراعة ويتم تبسيط الأمر ولا تكون مشكلة، لكن بعد الاستقلال تغير الوضع، فالسنغال في تلك الفترة تعرض لأزمة قوية بين سنكور وممادو ديا وهو رئيس الحكومة ومنحه الدستور أن يكون رئيس الحكومة وعنده الكثير من الصلاحيات، وسنكور مجرد رئيس جمهورية وليس هو الرئيس الفعلي للحكومة، وكان من بين الأمور التي ينقمون علينا: تعلم العربية، و الكثير منهم يعرفون اللغة العربية ويتقنونها، والشعب ليس كارها للعربية، لكن هذه أمور سياسية داخلية، وتتذكرون المناوشات عام 1966م. والتي يقال إن "البيظان" هم من افتعلوها و هذا غير صحيح، في تلك الفترة أنا كنت رئيس الشؤون السياسية في وزارة الخارجية، وذهب المختار إلى باماكو بعد أن استدعاه مامادو كيتا بحجة أن لديه ما سيخبره به وذهب إليه، فقال له: التقيت بالرئيس سنكور وهو غضبان، وقال إنه هو و"فود باني" سيسقطونك من الحكم وسيكون ذلك عن طريق الجالية الإفريقية، وفعلا في يوم قدوم الرئيس قامت المظاهرات وكان ذلك بتاريخ 6 فبراير، وبهذا تدرك أن السبب لم يكن موريتانيا بل هم من افتعل هذه الأمور، وموريتانيا في تلك الأثناء عقدت مؤتمرا بين موريتانيا ودول من إفريقيا الغربية وكان المؤتمر هنا وأصبح المختار هو الرئيس الدوري، فناداه سنكور وقال له: نحن نريد مؤتمرا طارئا لأننا نريد الكونغو أن تصبح عضوا في المؤتمر، فقال لهم المختار سأسأل باقي الرؤساء إن كانوا موافقين على الاجتماع أم لا، وإذا كانت هناك أغلبية يتم الاجتماع، فلم يتركوه يسألهم، بل قرروا أن يقيموا الاجتماع عندهم وهم ليس لديهم الحق في عقد الاجتماع، فالرئيس المختار هو رئيس المؤتمر وهو من يحدد أين ومتى يعقد المؤتمر والآخرون ليس من صلاحياتهم ذلك وكان كل هذا من تخطيط "سنكور" و"فوتباني" ، فسنكور تقف وراءها جماعته المعروفة، والكونغو دولة ذات موارد كبيرة وهم يعتبرون أن بلجيكا لا تستحقها لأنها دولة صغيرة ويريدون تقاسم ثرواتها.
موقع الفكر: متى تأسست حركة المشعل الإفريقي (فلام)؟
الوزير التقي بن سيدي: حركة المشعل الإفريقي (فلام) تأسست هناك في السنغال ولا يأتي منها هنا إلا شرذمة قليلة ونشر العنصرية هو دورهم وقد نشروها في السنغال وفي كل مكان وتتم مساعدتهم من طرف بعض الدول الإفريقية ودول أخرى، أما نحن فمن مصلحتنا دائما لم شمل الجميع لكي لا تتفرق اللحمة الوطنية، وهذا هو ما حدث 1989م. وتقف خلفه دولة معروفة، ويوم 16 مارس الذي وصلت فيه الفرقة العسكرية الانقلابية القادمة من دكار وهم يعلمون أنه ليست هناك طريقة للوصول إلى موريتانيا إلا عن طريق السنغال ولن يتم ذلك إلا إذا كانت الحكومة السنغالية موافقة عليه.
وأقنعت الوزير الأول آنذاك ولد "ابنيجاره" بأن الأمر أوضح من الشمس فهل يعقل أن فرقة عسكرية مدججة بالسلاح تجتاح بلدا بأكمله ولم يتم رصدها أو توقيفها معنى هذا أنهم مشرفون على الأمر وعلى علم بحدوثه، لكن أيضا تزامن ذلك مع إهمال حكومي فكيف وأنتم على علم أن قوة عسكرية ستجتاح البلد لا تأخذون الإجراءات اللازمة فيعبرون السنغال كاملا ويعبرون موريتانيا حتى يصلون إلى العاصمة نواكشوط؟ فهذا غير مقبول.
موقع الفكر: بخصوص المحاولة الانقلابية (16 مارس) الرئيس هيداله بدل أن يقيل المسؤولين المقصرين في مهامهم أقال المخلصين من أعوانه، فهل يعني ذلك وجود طرف داخلي داعم لتلك المحاولة؟
الوزير التقي بن سيدي: نعم، وهذا لا معنى له، وأنا لا أريدك أن تعاقب أحدا ولكن أن تتخذ الإجراءات اللازمة فالحدود لا يجب أن تتعداها أي قوة، فالانقلاب كله مهيأ، فولد هيداله ذهب نوفمبر 1984م. من أديس آبابا وقلت له قبل ذهابه: أظن أنه يجب أن تطلق سراح السجناء كي يخفف ذلك من المشاكل وتتحاور معهم، قال لي: إن شاء الله سأفعل ذلك.
موقع الفكر: هل يمكننا القول إن فترة ولد هيدالة كانت فيها جهات توتر العلاقات بينه مع أصدقائه مثل ابريكة ولد امبارك الذي أقيل حينها؟
الوزير التقي بن سيدي: المشكلة ليست في أن الانقلاب فشل، بل هي أنك عندما تشعر بطرف آخر يحضر لك ويريد اقتحام بلدك وهناك طريق واحدة وهي الحدود من جارك، ثم لا تتخذ إجراءات لردعه، فيذهبون حتى يصلون إلى الرئاسة وقيادة أركان الجيش، فهذا يعني أنك غير موجود، أو ليس لك حلفاء، وهذا غير مقبول، أما أنا فاقترحت على الوزير الأول ولد ابنيجاره وقد قالها عدت مرات، قلت له: هذا الوضع الذي نحن فيه اتضح أن السنغال لها اليد الطولى في هذا الأمر وهذا الأمر لم يعد بالإمكان نفيه أو إخفائه، لا من طرف السنغاليين ولا غيرهم، فالأمر بات واضحا، لكن هل نريد أن ندخل معهم في مواجهات لكي يكون ذلك ذريعة يبررون بها لأنفسهم غزو البلاد، يجب ألا نسكت عنهم؛ لأنه لا يوجد أي شخص سنغالي أو أجنبي إلا ويعلم أنهم هم سبب هذه المشاكل، ونحن سنسكت عنهم حتى لا يقول الناس إن موريتانيا عدو للسنغال ولذلك لم ننبس بنت شفة بكلمة في هذا ولم نقل كلمة اتجاه السنغال، وبعدها أخبرني جميع السفراء الغربيين في زيارات مختلفة: أبليتم بلاء حسنا وأغلقتم الباب أمام السنغاليين، وشعبهم أدرك أن حكومته لها تدخل في هذا الأمر، والناس الآخرون أدركوا هذا أيضا، وأنتم صبرتم ولم تصرحوا بأي شيء اتجاههم.
موقع الفكر: هل قابلتم عبد ديوف بعد هذا الحادث؟
الوزير التقي بن سيدي: بكل تأكيد، قابلته قبل الحادث وبعده، لم يقل إلا كلاما دبلوماسيا وأنا أفهمه وأفهم أنه ليس لديه مبرر، وأنا كنت أنتظر منه تصريحا ولكنه لم يصرح بأي شيء، لأنني سأقول له سيدي الرئيس هذا غير مقبول فدولة مثل السنغال موالية لفرنسا ومطار دكار تحت القوات الفرنسية، وجميع التحركات في المغرب، وباريس، وجنيف، وأنتم متابعون لها ليس من المعقول أن يدخلوا ويخرجوا دون علمكم وإن لم تشعروا بذلك فهذا غير معقول سيدي الرئيس، وقلت له: نحن لن نخلق لكم مشاكل ولن نقول لكم أنكم فعلتم كذا وكذا، والحكومة والإعلام الموريتاني لن يذكركم بأفعالكم ولا نريد تأليب الشعب الموريتاني ضدكم، فقال لي: شكرا جزيلا.
موقع الفكر: هل كانت حركة " فلام" تتحرك في السنغال بحرية؟
الوزير التقي بن سيدي: افلام كانت كثيرة التحرك هناك والكل يعرف ذلك، وللدولة وسائلها الخاصة ولديها الكثير من المخبرين، وكما تعلم سبب نجاة اللجنة هو أنهم لم يجتمعوا يوم قدوم القوة المعادية، والسبب هو أن فرنسا تعلم أن القوة المعادية ستقتحم البلد ولديهم هدف واحد وهو قتل الناس، وقد اتفقوا في ذلك اليوم، وسبق أن طلبت منهم موريتانيا حماية حدودها الشمالية من اعتداءات الجزائر أو المغرب أو البوليزاريو، وجاءوا بـ(كونتينجاه) 150 عسكريا من نواذيبو بطائراتهم ومعداتهم وبعد أن قضوا شهرا طردتهم الحكومة وكان هذا العمل في قمة الغباء، المهم أن الجنرال أخبرهم أنه لا بد من أن يطلعوه على المناطق الحدودية المطلوب حمايتها وهو في الحقيقة على علم بقدوم (الكوماندوز) في اليوم الموالي، لكنه لم يكن يفضل قدوم قوة عسكرية ستقوم بقتل الناس لأن هذا سيحدث مشكلة كبيرة، فذهب معه الرئيس وكاتب الدولة للشؤون الدفاعية العقيد سوماري، فقدم الانقلابيون واقتحموا قيادة الأركان، ثم الإذاعة، ثم الرئاسة، وقتلوا أشخاصا منهم رجل مسن كان يجالس رئيس الجمهورية قتلوه بدم بارد، وقتل هناك مفوض شرطة يدعى "اند حبيب"، وأصيب أيضا المفوض "القطب"، وتخلص منهم معاوية في قيادة الأركان ولا أظن أنهم كانوا يريدون قتله، أما إعدام انقلابي 16 مارس فقد سبقته عدة إعدامات، وهذه هي المشكلة، ومن كان يريد اتخاذ قرار لا بد من حساب دقيق للعواقب، والدولة لا بد أن يكون لها موقف ثابت يتساوى فيه الجميع، وأنا دائما أقول إن قتل الناس لا يحل المشاكل، وكان لا بد من إيجاد حلول أخرى، وهم أيضا لم يدخروا جهدا في إظهار نواياهم، وسبق أن قتل الكثير قبلهم، فقد قتل انقلابيي إينال، وقد قتل آخرون قبلهم.
موقع الفكر: هل تصدقون الرواية التي تقول بإعدام بعض العسكريين الزنوج في إينال بدم بارد؟ مع أن النقيب ابريكة ولد امبارك صرح لنا بأنه يشك في صحة هذا الرواية؟
الوزير التقي بن سيدي: نعم، وأظن أن الجميع يعلمون ذلك، ربما ذلك لأنه كان صاحب رتبة عسكرية كبيرة، ولن يقبل التشكيك في الرواية الرسمية.
موقع الفكر:أهالي ضحايا 1989 يطالبون بالكشف عن قبور ذويهم؟
الوزير التقي بن سيدي: أنا سمعت فقط ما يدعيه ذوو الضحايا، وأنا أظن أننا في كل هذه الملفات لم نتعامل كدولة، فالدولة يجب عليها ألا تقبل أن يقتل أي عنصر من جيشها إلا بعد إدانة قضائية، ففي كل بلدان العالم إذا كانت هناك محاولة انقلابية فاشلة يقدم الانقلابيون لمحاكمة عسكرية، فإذا حكم عليهم بالإعدام هناك خياران: أولا: يجب ألا ينفذ حكم الإعدام إلا بموافقة من رئيس الجمهورية، وثانيا: يمكن سجنهم، وبعد انقضاء فترة من الزمن يعفى عنهم، وبالطبع يتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية، ولكن لا يمكن إعدامهم إلا بقرار قضائي، أما أن تتم هذه الإعدامات خارج القانون فهذا غير مبرر، وهذا هو حال الجيوش في العالم، وأنا أرى أنه يجب أولا الاعتراف بأننا لم نقم بالإجراءات اللازمة، فكما تعلم هذه كانت خيانة من أفراد من الجيش لمؤسستهم العسكرية ولا بد من عرضهم على محاكمة عسكرية ولن يحاكموا إلا بقرار من قائد أركان الجيش لأنه هو صاحب القرار الأخير، هل يعفوا عنهم أم لا، وعندئذ تكون الدولة قادرة على تحديد صاحب المسؤولية واتخاذ ما يلزم.
و أرى أن الدولة يجب عليها دراسة كل أمورها بجدية واتخاذ الإجراءات اللازمة ثم تنفذ قراراتها، أما أن يعدم أشخاص خارج القانون ويدعون أن ذلك تم بأوامر أو قرارات شخصية فليست هذه هي الطريقة المثلى، فالطريق الأمثل هي أن يعاملوا بما يعامل به الخونة العسكريون بمحاكمة عسكرية فتتم دراسة وضعيتهم وإعداد تقرير حولها يقدم إلى القضاء الذي يجب أن يكون قضاء عسكريا ويأخذ القضاء قراره الذي سيكون الرئيس هو صاحب الكلمة الأخيرة فيه إما أن يسجنهم أو يعدمهم أو يخلي سبيلهم، لكن الدولة عندما لا تكون جدية في الأمور تكثر أخطاؤها.
موقع الفكر: من يتحمل المسؤولية ؟
الوزير التقي بن سيدي: أنا لا أحمل أحدا المسؤولية ولكن هذا هو رأيي في طريقة التعامل مع مثل هذه الحالات خاصة في بلد مليء بالتوتر مثل بلدنا لا بد أن يكون اتخاذ القرار بعد تفكير عميق، ينظر فيه إلى أفضل ما يمكن فعله بالمقارنة مع سمعة الدولة الموريتانية، وسمعة الجيش الموريتاني، وسمعة الرئيس الموريتاني، وهذا أفضل ما يمكن القيام به.
موقع الفكر: كيف تعود العلاقات الموريتانية السنغالية والمواطنون الموريتانيون الذين كانوا يقيمون في السنغال تضرروا كثيرا من الطرد ونهبت أموالهم وهم لم يجدوا من يطالب بحقوقهم الضائعة فلا السنغال عوضت لهم ولا موريتانيا طالبت بحقوقهم؟
الوزير التقي بن سيدي: لهذه الأسباب كنت أقول لك إن الدولة يجب عليها دراسة جميع الأمور وأن يتم التفكير في الخيارات تفكيرا عميقا، وكان بإمكان القيادة الاستعانة ببعض الدول ذات العلاقة القوية مع السنغال كفرنسا مثلا، وتسألهم عن أفضل ما يمكن القيام به، وتستعين برأيهم مع التأكيد على أن مهمة الدولة تتمثل فقط في الحفاظ على مستقبل الشعب وصون سمعة البلد، وهذه هي نتيجة العلاقات أن تستعين بالجميع وتعمل بإرشاداتهم، وتحاول دائما أن تسلك أحسن المخارج التي تكون معينة لك في المستقبل، ومن المؤكد أن هناك أطرافا دائما تحاول الإيقاع بين موريتانيا والسنغال.
موقع الفكر: لماذا لم تحدث حرب بين موريتانيا والسنغال؟
الوزير التقي بن سيدي: كما تعلم فالرئيس عبدو ديوف قبل الأحداث سرح 7000 شرطي سنغالي من الخدمة لأن؛ وضعه الاقتصادي كان هشا جدا، لكن عادة الدول عندها أمور خاصة، فكلما كانت عند إحدى الدول المجاورة لك مشاكل داخلية يحاولون تأليب شعوبهم ضدك ويلقون اللوم عليك وأنك أنت هو السبب في حالتهم، وفعل "عبدو ديوف" هذا قبلنا، وكان ردنا مماثلا لما قام به، وللسفراء دور كبير، فأنا في تلك الأثناء أخبر العديد من الناس أنني كنت شجاعا لطلبي من الوزير الأول أن يجنح إلى السلم لعلمي أن فيه مصلحة موريتانيا، وأعلم أنه بعدها لا يمكن للسنغال اتهامنا أي تهمة، والرأي العام السنغالي سيدرك أنه كان مضللا.
موقع الفكر: هل قرأتم مذكرات "عبدو ديوف" التي ذكر فيها أسباب عدم اندلاع الحرب التي كان البعض ينصحه بها ولكنه أحجم عنها لعلمه أن موريتانيا أكثر تسليحا من السنغال؟
الوزير التقي بن سيدي: أخبرته بذلك فرنسا، قالوا له: اترك عنك موريتانيا، فهي أقوى منك عسكريا، وفرنسا كانت خائفة على السنغال والمنطقة ككل، لأن دور موريتانيا كان الربط بين مستعمرات الجنوب ومستعمرات الشمال الإفريقي، كنا فقط منطقة للعبور، وربما تكون هناك دسائس ومحاولات للإيقاع بيننا وهو الشيء الذي يصب في مصلحتهم، وليست فيه مصلحة لنا ولا للسنغال.
موقع الفكر: ما سبب عودة العلاقات، بين موريتانيا والسنغال؟
الوزير التقي بن سيدي: سأخبرك الحقيقة، حينما كنت سفيرا لموريتانيا في بروكسل التقيت رئيس البرلمان الأوروبي الذي سبق أن كان وزيرا أول في بلجيكا، وأقنعته أن موريتانيا مسالمة، ولا تبحث عن المشاكل مع السنغال، و أن السنغاليين هم من يريدون تعقيد الأمور من دون مبررات، واقتنع بذلك، وأنا كنت نافذا هناك في الاتحاد والبرلمان الأوروبي، وأفعل ما أريد هناك، فقرر رئيس البرلمان الأوربي أن يقوم بمحاولة إصلاح العلاقات بين موريتانيا والسنغال، وكانت زيارته الأولى لموريتانيا وقدمت معه، وقمنا بزيارة للرئيس معاوية وأعجب بالأمر، وكان لا بد من إقناعه بأن موقفنا موقف سلمي، فذكرناه بتاريخنا مع السنغال وأننا كنا كالبلد الواحد، نشترك في العديد من النقاط كالدين، والثقافة وعلاقات مصاهرة، فاقتنع بهذا، وذهبنا إلى روصو واستقبلنا الوالي آنذاك ولد النهاه رحمه الله، وبعد الغداء ذهبنا إلى (الباك) وكان كل شيء منسقا، وبعد وصولنا إلـى(الباك) رأينا السلطات السنغالية بما فيهم الوالي والسيارات العسكرية، ثم ذهبنا إلى السنغال، والتقينا بعد ذلك واتفقنا على إعادة العلاقات من جديد، ولكن هناك أطراف لا تريد عودة العلاقات إلا إذا كانوا هم الوسطاء، فكما تعلم المخابرات الفرنسية هي من كانت تتولى ملف العلاقة الموريتانية السنغالية وكانوا بودهم أن يكونوا هم من يقوم بالتسوية ونحن فهمنا ذلك، ثم صرح لي بذلك رئيس البرلمان الأوروبي، وكان هذا يمثل ضغطا من طرف الأوروبيين على فرنسا حتى أنه تم استدعاء الحكومة الفرنسية لمعرفة ما إذا كانوا سيتدخلون لحل هذه التوترات أم يتدخل الاتحاد الأوروبي، وفرضت هذه الأسباب عليهم التدخل.
موقع الفكر: ما هو رأيكم في موضوع الأحواض الناضبة؟
الوزير التقي بن سيدي: الموضوع عار من الصحة فباب ولد أحمد يوره رحمه الله لم يبع لهم أية أرض ولم يمنحها لهم، وكما قلت لكم سلفا أحيانا يأتي أناس إلى الرؤساء غير مدركين للأمور أو ليس له علم بها ويدلون بمعلومات مغلوطة، وهذا يجب ألا يحدث لأن الدولة عندها الشرطة، والمخابرات، والسفارة، فإذا لم تحصل على معلومات منهم، لا ينبغي أخذ تلك المعلومات من مصادر مجهولة، ولا بد من التفريق بين الحقيقة والكذب، فباب ولد أحمد يوره رحمه الله سجن بسبب وشاية وهو بريء.
موقع الفكر: هل ترون أن السنغال استوعبت الدرس؟
الوزير التقي بن سيدي: أظن أن السنغال يجب أن تكون قد استوعبت الدرس، وهم يبحثون عن مصالحهم فقط وفرنسا تقف معهم دائما ومؤيدة لهم في كل المواقف، لكن في نفس الوقت أيضا لهم جالية كبيرة في موريتانيا عاملة في عدة مجالات منها الصيد وما دامت موريتانيا تغض الطرف عنها فإن ذلك سيخفف عنهم من المشاكل، وكلما تعاملنا معهم بصرامة زاد ذلك من حدة التوترات، وفرنسا مثلهم، وكما تعلم فرنسا لم تعد تثق بنا لأنها دخلت معنا في حرب الصحراء، وتدخل طيرانها بطريقة غير شرعية في القوانين الفرنسية، لأنه في القانون الفرنسي إذا كان الجيش الفرنسي سيتدخل في حرب خارجية لا بد أن يمر الأمر بالبرلمان الفرنسي يقبل بذلك أو يرفضه، وهم لم يمرروا الأمر عن طريق البرلمان بل فعلوا ذلك بصفة سرية لخوفهم من أن يرفض البرلمان ذلك وعندهم قوات جوية في دكار وهي التي قامت بالتدخل، وكان هناك اتفاق سري إذا احتاجت موريتانيا إلى الطيران الفرنسي يكون هناك اتفاق سري بين الرئيس والسفير الفرنسي في موريتانيا، يقوم الرئيس بتوجيه طلب للسفير ويتم توقيعه ثم يتم إرساله إلى باريس وبعد أربعة وعشرين ساعة يتم التدخل العسكري، وهم تدخلوا مرتين، ولو كانت موريتانيا لم تؤمن (ميفارما) ولم تخرج من (سولفا) لا يمكن أن يخترق أجواءنا أي كان لأن هناك مصالح.
موقع الفكر: ذكر المدير السابق لشركة سنيكم باب بن أحمد سيدي عبد الله ولد أحمد يوره: أن الفرنسيين اجتمعوا بداية 1973، وعرضوا على الدولة الموريتانية أن يقرضوها حصة الأوروبيين من الشركة ب30 مليون دولار، وذكر أن موريتانيا بعد ذلك بعام اشترت نصيب الأوروبيين ب90 مليون دولار نقدا؟
الوزير التقي بن الشيخ: إذا كان الفرنسيون قدموا هذا العرض، فكان ينبغي على موريتانيا أن تقبله، لكن لا أظن أنهم سيفعلون ذلك، وهم حصلوا على 90 مليون دولار، وقاموا بنفس الطريقة مع (سوميما)، وهي شركة للنحاس كان فيها مستثمرون بريطانيون.
موقع الفكر: هل من كلمة أخيرة؟
الوزير التقي بن سيدي: أشكركم بمناسبة هذا اللقاء، وسنبقى إن شاء الله على اتصال، أما قضيتنا مع السنغال ففيها الكثير من التفاصيل، وأنا لدي الكثير من الأصدقاء في السنغال، وفي الفترة التي كنت فيها سفيرا في السنغال كان وزير خارجيتهم صديقي من قديم الزمان، وكان قبل ذلك مدير ديوان سنغور وأنا في تلك الفترة مع الرئيس المختار، وكان ذلك بداية صداقة عميقة، وعندما رشحتني الحكومة لتولي السفارة في دكار 1979م. أرسلت إليهم الرسالة في الصباح ولم يحن الزوال حتى أرسلوا موافقتهم وهو الأمر النادر، وقال لي وزير الخارجية: عندما وصلتني الرسالة اتصلت بالرئيس "سنغور" والوزير الأول وقلت لهم: موريتانيا أرسلت إلينا سفيرا سنغاليا. فسألاه: من أرسلت؟. فقال لهم فلان"التقي بن سيدي، وهم يعرفونني، فقالوا له: أرسل إليهم فورا ردا بالموافقة وهو الأمر الذي لم يحدث من قبل، وعندما قدمت السنغال استقبلني البروتوكول وقال لي: قال لك صديقك الوزير المصطفى نياس أنه سيستقبلك غدا الواحدة زوالا لتتناول معه وجبة الغداء في المنزل وهو الأمر الذي لم يحدث مع سفير من قبل.
فالقضية أن السفير إذا كان يتحلى بالعقل والكياسة يمكن أن يؤدي كل مهامه ببساطة.
موقع الفكر: هل كانت هناك وعود بإنشاء مؤسسة أكاديمية للدبلوماسية؟
الوزير التقي بن سيدي: أنشأت تلك المؤسسة، لكن لم يتم تعيين أي أحد على رئاستها، فأنا كنت أدرس الدبلوماسيين مدة تسع سنين في المدرسة الوطنية للإدارة، وأنا في تلك الفترة عضو في المجلس الدستوري، وجل موظفيهم أنا من قام بتكوينهم، وهم معترفون لي بالجميل، فبالأمس كنت في اجتماع مع وزير الخارجية، وقال لي: تلامذتك يشهدون لك بالخير ويثنون عليك، قلت له: هذا واجبي، والناس كانت بحاجة إلى ذلك، وعينت واحدة منهم مسؤولة عن البروتوكول قال بأنها قالت له: أنا نسيت جميع الأساتذة إلا فلان وحده لن أنساه ولست الوحيدة فنحن تلامذته كلنا كذلك.
موقع الفكر: مضطرين للتوقف، ولقد كان حديثا شيقا نشكر الأستاذ، والأكاديمي، والدبلوماسي، وعضو المجلس الدستوري، والوزير، والسفير، الرجل الذي خدم البلد في محطات مختلفة برزانة، وحكمة، وهدوء، ونتمنى لكم التوفيق.