الدكتور ديدي ولد السالك في حوار شامل مع موقع الفكر: التعليم العالي جزء من القوة الناعمة لموريتانيا وصورتها الخارجية

الفكر(نواكشوط) في إطار مواكبة موقع الفكر لمجريات الساحة الوطنية، وسعيا منا إلى إطلاع متابعينا الكرام على تفاصيل الأحداث، بتحليل متوازن، ونقاش متبصر، نلتقي اليوم مع أحد الأكاديميين الموريتانيين، ممن عايشوا واقع التعليم ،وخاصة التعليم العالي منه، فكان من رواده الأوائل الذين واكبوه طلية السنوات الماضية، إضافة إلى عمله في ميدان البحث والنشر، نحاوره ونستجلي من خلاله ما وراء الخبر، في لقاء شامل حول واقع التعليم بموريتانيا، إضافة إلى المشاكل التي تعترض العملية التربوية بموريتانيا وتعيق مخرجاتها  عن بلوغ الأهداف المنشودة..

فأهلا وسهلا بضيفنا الكبير الدكتور ديدي ولد السالك

 

 

موقع الفكر: نود منكم أن تعرفوا المشاهد على شخصكم الكريم من حيث الاسم وتاريخ محمل الميلاد، وأهم الوظائف التي تقلدتم؟

د. ديدي بن السالك: ولدت في مدينة تجكجه في  بداية السبعينات  على شهادة البكالوريا سنة 1988م. وحصلت على الإجازة من جامعة نواكشوط في القانون العام سنة 1992م. وغادرت إلى تونس فسجلت في جامعة تونس فحصلت منها على شهادة الدراسات المعمقة في العلوم السياسية وسجلت في كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة تونس 3 ذلك في الوقت جامعة المنار  حاليا وحصلت  منها على شهادة دكتوراه  سنة 2001 في العلوم السياسية ودرست في الجامعة التونسية أستاذا متعاونا ودرست في الجامعة الليبية وعملت في مركز دراسات الوحدة العربية باحثا زمالة متفرغ ثم عدت إلى البلد سنة 2008م. وأعمل حاليا أستاذا جامعيا للتعليم العالي ورئيس المركز المغاربي للدراسات  الاستراتيجية، والمركز يركز في الأساس على قضايا  البحث العلمي والقضايا التي تواجه موريتانيا ويهتم بالاندماج المغاربي، وانطلاقا  من هذا الاهتمام أصبحنا أعضاء في كثير من الهيئات المغاربية  والمنتديات و الجمعيات العلمية وأعمل عضو تحرير في بعض المجلات المغاربية ومراكز الدراسات كما أعمل عضوا زائرا في بعض الهيئات وازداد اهتمامي بوصفي باحثا يهتم كثيرا بالاندماج المغاربي.

ويهتم المركز بأولويات البحث العلمي لكنه يقوم بتعزيز قدرات المجتمع المدني ولدينا برنامج خاص بدعم تكوين الشباب على المواطنة وثقافة التسامح ولدينا برنامج لدعم الانتقال الديمقراطي. والاهتمامات العلمية يتركز حول أربع محاور حول قضايا الانتقال الديمقراطي، وقضايا الاندماج المغاربي والنظام الإقليمي  العربي بصفة عامة وقضايا التنمية الدولية  وإشكالية التنمية في موريتانيا بشكل خاص، ولدي عدد  من المنشورات وشاركت في أكثر من عشرة كتب منشورة مشتركة ولدي أكثر من أربعين دراسة وبحث منشور.

 

موقع الفكر: حبذا لو عرفتم لنا مصطلح الحكامة؟

د. ديدي بن السالك: ظهر مصطلح الحكامة في أحضان مؤسسات التمويل الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في أزمة المديونية في مرحلة نهاية السبعينات وبداية الثمانينات وتعزز عندما اكتشف العالم أنه لا أمل للإصلاح في إفريقيا إلا بإيقاف الفساد؛ لأنه هو سبب المديونية وسبب تعثر التنمية؛ وبالتالي جاءوا بمفهوم الحكامة كمفهوم جديد وهو أن تتوجه الدولة بكافة مواردها بشكل يخدم المواطن ويخدم أهداف التنمية، وتقوم الحكامة على ثلاث مبادئ الشفافية والمساءلة والمحاسبة وهذا هو عموم منطلق مرتكزات الحكامة. والمرتكزات مترابطة  بعضها بعض، ولكن عندما نتحدث عن  الحكامة في موريتانيا فإننا نتحدث عن بلد يعاني محنة فساد غير عادية، فموريتانيا من بين دول شمال إفريقيا والمغرب العربي التي عانت منذ 1978م. من محنة فساد جعلت منها مجموعة بشرية تجلس على مجموعة من الثروات ولا تستطيع الاستفادة منها؛ وبالتالي فهذه الثروات إما أن يأخذها الأجنبي أو يأخذها مواطن متواطئ مع الجهات الأجنبية وبالتالي لا يستفيد منها الشعب الموريتاني. وعندما نتحدث عن الحكامة في موريتانيا فإن أول ما نتحدث عنه هو محاربة الفساد وإقامة بنية حقيقية لمحاربته بمعنى تصفية العقود الماضية من الفساد فما لم تتم تصفية ملفات الفساد خاصة  ملف  العشرية الأخيرة فلن نصنع شيئا؛  لأن ما وقع منذ 1978م. حتى 2008م. فساد بنيوي برعاية مؤسسات الدولة أما  منذ 2008م. فصارت عندنا سلطة توظف كافة الأجهزة كالموظفين في مؤسسات الدولة لنهب موارد الدولة من أجل تحويل هذه الأموال إلى أملاك شخصية لا يستفيد منها الشعب وأول شيء هو  استعادة هذه الأموال ومعاقبة من قام بهذا النهب فما لم تتم تصفية هذا الملف لن يقتنع أحد بجدية محاربة الفساد وهذا هو المنطلق الأول.

والمنطلق الثاني هو إقامة مؤسسات فعلية لمحاربة الفساد ومعنى ذلك إقامة آليات وطنية لوضع نظم المحاسبة والشفافية والمساءلة  ودورها هو خلق الآليات التي تمنع الفساد بأشكاله والفساد يعرف بأنه: "استخدام المنصب أو المركز لمصالح شخصية". والبعض يتصور أن الفساد تطلق على الرشوة أو سرقة المال فقط، فالمحاباة في تعيين الموظف غير الكفء والسرقة فساد والرشوة فساد و التحايل أو عدم شفافية المسابقات  فساد والمحسوبية والزبونية فساد و التمالؤ في الصفقات فساد وفساد السلطة فساد، وأخطر أنواع الفساد، الفساد السياسي وفساد الصفقات العمومية وعندما يحصل الفساد السياسي سيصبح هناك فساد مالي وإداري وتصبح السلطة الحاكمة تدير الفساد.

 والخطوة الثالثة: إقامة مؤسسة تحارب الفساد.

 والخطوة الرابعة: تفعيل القوانين التي تحارب الفساد ومجانستها  وتفعيلها.

 والخطوة الخامسة تفعيل مؤسسات الرقابة والضبط، وعندنا ما يزيد على اثني عشر جهازا لمكافحة الفساد أدناها مفوضية الشرطة لمكافحة الفساد وأعلاها محكمة الحسابات وكل هذه الأجهزة والهيئات مرورا بالمفتشية العامة للدولة والمفتشيات الداخلية، والمفتشيات الداخلية   مفروض أنها هيئات رقابة بدرجات متفاوتة ولا بد أن تكون قائمة بدورها  ومفعلة  فبعضها دوره قبلي وبعضه مواز  وبعضه بعدي و تنجز تقريرا سنويا حول الاختلالات وتوضع أمام القضاء.

  والخطوة  السادسة هي وجود قضاء مستقل وقال عبد الرحمن بن خلدون "إن العدل أساس الملك وإن الظلم مؤذن بخراب العمران"  والعدالة ليس دورها محصورا في الحكم بين المتنازعين بل يجب  أن تكون هناك أجهزة قضائية تقوم بدورها بتطبيق القانون وردع مخالفيه و إرجاع المظالم إلى أصحابها وأن تعطي صورة عن لبلد؛ لأن الكثير من الأجهزة القضائية في البلد اليوم رغم ضعفها وهشاشتها وضعف الموارد البشرية والمادية لديها ولكن أخطر ما تواجهه هذه الأجهزة هو عدم تطبيق أحكامها. وعندما لا تطبق الأحكام القضائية فنحن لم نعد نتحدث عن القضاء، والقضاء دوره إنفاذ أحكام القانون وتطبيقها سواء كانت هذه الأحكام صادرة على الدولة وأجهزتها أو صادرة بين المواطنين ومن المفروض أن الجهات التنفيذية تنفذ أحكام القضاء،  وهذا الجزء مهم بالنسبة إلى القضاء ولكن الجزء الأهم  في صورة البلد بالنسبة لاستقلال القضاء هو دوره في جذب الاستثمارات وما من دولة يمكن أن تتطور ويحصل فيها الحد الأدنى من التطور إلا من خلال جذب الاستثمارات والاستثمارات ليست رؤوس أموال فقط بل هي موارد بشرية لديها خبرات وتراكم معرفة وجلب للتكنولوجيات الجديدة ، وعندما لا تكون لدينا عدالة قوية لا يمكن أن نتحدث عن جلب الاستثمارات وجلب رأس المال وعندما لا تكون عندنا عدالة قوية لا يمكن أن تحدث عن جلب الاستثمارات.

واليوم أثبتت التجارب في القرن العشرين  ثلاثة أمور: وهي: أن البحث العلمي له مردودية مباشرة على التنمية، وبدونه لا توجد تنمية، وكذلك لا تنمية بدون حكامة، وثالث الأمور أنه لا تنمية بدون استثمارات وأهم شروط الاستثمارات العدالة، لأنها أول ما يسأل عنه المستثمر ثم يسأل بعد ذلك عن النظام البنكي  ثم النظام المحاسبي  ثم يسأل عن  البنى التحتية وهل هي موجودة وأخيرا العمالة المدربة.

إذن موريتانيا بحاجة إلى تأسيس حكامة حقيقية. كيف نبني حكامة في موريتانيا؟ وإذا أردنا أن نبني حكامة في موريتانيا لا بد أن نهتم بعنصرين أساسيين في نفس الوقت إعادة هيكلة ما عندنا من مؤسسات سواء كانت مؤسسات خدمية ومؤسسات استراتيجية أو مؤسسات إنتاجية. لأن الهيكل الإداري الذي عندنا حاليا لم يدرس بشكل يراعي كيفية قيامه بدوره؛ لأن الهيكل الإداري يجب أن تراعى في بنيته جملة من الأمور وأول من يجب أن يراعي فيه عدم التداخل لأن الأجهزة عندما تكون متداخلة سيتوقف العمل الإداري و ثانيا: يجب أن يكون قادرا على المهمة الموكلة إليه وثالثا: أن يمتلك هذا القطاع رؤية  استراتيجية ورابعا مراعاة الموارد وألا تستنزف الموارد البشرية فلا نقلل من الموارد كيلا تعجز عن أداء واجبها ولا نكثر منها كيلا تستنزف الأموال الموجهة؛ لأنه صارت عندنا مشكلة في موريتانيا وفي كثير من دول العالم واهتمت بها الهيئات الدولية في السنوات الأخيرة هي أن تكون ميزانية المشروع  المخصصة لا تصل المستهدفين وإنما  تصرف في السيارات والمكاتب والأشخاص القائمين  عليه،كمشروع أمل حاليا في موريتانيا الذي تذهب 60% منه في التجهيزات والبنى والموظفين ولا تصل المستهدفين منه إلا 40%.

وأول ما يراعى في التنمية الهيكلة الإدارية وأن تكون هذه الهياكل الإدارية قادرة على أداء عملها بتناسق ولا تعاني من الترهل، فأجهزتنا تعاني من الترهل بل يقدر البعض أن 80 % من الموارد البشرية غير قادرة على العمل إما بسبب تزوير الشهادات، أو أن أصحابها لا يمتلكون شهادات أصلا ،أو أنهم في مجالات غير مجالات الاختصاص المطلوب،  كأن تعين جيولوجيا في محل طبيب أو تعين فيلسوفا في محل مهندس ميكانيكا ،وهكذا دواليك، وهذه الإشكالية جعلت 60% من النسبة المذكورة لا يذهبون إلى مكاتبهم بما أنهم عينوا بزبونية ومحسوبية وبالتالي لا يداومون في مكاتبهم، أو عينوا في اختصاصات غير اختصاصاتهم؛ وبالتالي لا يأتون إلى مكاتبهم.

إذن نحتاج إلى إعادة الهيكلة ،ليست فقط إعادة توازن الأجهزة الإدارية  من حيث النظر في الموارد البشرية والركن الثاني  يتعلق بالموارد البشرية لأن وضعيتها حاليا مزرية لضياع ثلاثة عقود ،مما يعني ضياع 75% من الثروة البشرية إضافة إلى عامل المشكلة الذي كنا نتحدث وهو أن غالبية العناصر إما مزورة شهاداتها أو أنها بلا شهادات أصلا أو من وظف منها وظف في مجال لا علاقة له به ،إذن فهذه الموارد تحتاج إلى إعادة تأهيل وتحسين للأوضاع المادية والمعنوية، فقطاع التعليم اليوم منهار ليس لضعف الموارد البشرية فحسب ،وإنما لسوء الأوضاع المادية أيضا، وأصبح المعلم اليوم يخجل من أن يقول إنه معلم.

وتقول الحكمة القديمة إنك إذا أردت أن تقضي على أمة فاقض على ثلاثة أمور، على رجل الدين القدوة، واقض على المعلم ،واقض على السيدة التي تفتخر بأنها ربة بيت.

ولهذه العوامل لا بد من الاهتمام بالموارد البشرية من حيث إعادة التأهيل ومن حيث الكفاءات، ومن حيث تحسين أوضاعها، وجعلها في ظروف تستطيع أن تعمل فيها.

وبعد ذلك نأتي إلى المنظومة القانونية فنقوم بتحسينها وتحديثها ومواءمتها وجعلها قادرة على مواكبة التطورات التي حصلت في الدولة والمجتمع والعالم.

وبعد ذلك تفعيل الأجهزة الرقابية فلدينا كثير من أجهزة الرقابة والضبط غير مفعلة ،فماذا يقوم به المجلس الاقتصادي والاجتماعي ؟ ماذا يقوم به مجلس الفتوى والمظالم ؟ ماذا تقوم به لجنة حقوق الإنسان؟ ما يقوم به المجلس الدستوري؟ ماذا تقوم به سلطة تنظيم الاتصالات؟ وماذا تقوم به سلطة تنظيم النقل؟ ماذا تقوم السلطة العليا للتعليم؟ كل هذه الأجهزة غير مفعلة ولا تعرف دورها بل إن بعضها لا دوره. ولا بد من إعادة هيكلتها ، فما كان ضروريا ينبغي إعطاؤه الوسائل اللازمة لأداء دوره ،وما كان منها غير ضروري ينبغي إلغاؤه.

فمن تداخل الأجهزة الحكومية أعطيك مثالا على مفوضية حقوق الإنسان ومندوبية تآزر ومفوضية الأمن الغذائي، وهذه الأجهزة تستنزف أموالا هائلة  وكان بالإمكان إدماجها في قطاع واحد يسمى قطاع التنمية الاجتماعية والتضامن، ويكون كل ما يقوم به عبارة عن برامج مواكبة للقطاعات الأخرى، ويكون هذا القطاع فيه مجموعة من الخبراء تشرف على تأهيل هذه القطاعات الاجتماعية ،ومراقبة وتطوير العقليات الاجتماعية لأن تغيير عقليات المجتمع وتحديثها بالتعليم والتعايش والاندماج لا يقل أهمية عن تغيير الواقع المادي.

وأما بالنسبة لأجهزة الرقابة والضبط فلدينا محكمة الحسابات ومفتشيات الدولة والمفتشية العامة للدولة والمفتشية العامة للمالية ،فينبغي أن يكون لدينا جهازان فقط، جهاز داخلي تابع لوزارة المالية، ومحكمة الحسابات تقوم بدورها باعتبارها جهازا خارجيا، وتكون لديها آليات  قانونية تجعلها تراقب رقابة قبلية وموازية وبعدية وتصبح قراراتها بمثابة أحكام قضائية أو أن تسلم تقاريرها إلى القضاء ويقوم بدوره مباشرة.

وأجهزة السلطة حاليا لا دور لها فسلطة الاتصالات معدومة عندنا ولا دور لها ولا يمكن أن ينهض اقتصاد اليوم دون الاقتصاد الرقمي، ولجنة حقوق الإنسان والآلية الوطنية لمكافحة التعذيب! ويمكن أن تكون لجنة حقوق الإنسان قامت في الفترة الأخيرة ببعض الدور وما هو الدور الذي يؤديه المجلس الاقتصادي والاجتماعي للدولة الموريتاني؟ بينما هو في العالم الآخر يعد تقارير ويوجه الاقتصاد الموريتاني؟ وماذا يؤدي مجلس الفتوى والمظالم! لا دور له.

ولا بد من تفكير عميق في هذه الأجهزة بالهيكلة والموارد البشرية والقوانين و النقطة التي تربط كل هذا، والأخيرة هي مسألة القضاء التي تحدثنا عنها فلا بد من إعادة الاعتبار له باستقلاله ومده بالموارد البشرية والمادية اللازمة وتحديث قوانينه.

موقع الفكر: ما أسبب التداخل في صلاحيات أجهزة الدولة؟

د. ديدي بن السالك: وجود أجهزة لا تقوم بدورها أو متداخلة مع بعضها ،سببه هو أن كل مشكلة نخلق لحلها جهازا إداريا دون التفكير فيما إذا كان هذا الجهاز ضروريا ،وهل هناك جهاز إداري  قائم يمكن أن يقوم بنفس المهمة، ففي مرحلة الرئيس معاوية بن سيدي أحمد الطائع كان كل موضوع ينشئ له مشروعا، رغم وجود أجهزة إدارية يمكنها أن تقوم بنفس الغرض.

ويمكن أن أعطيك مثالا أكثر عبثية وهو أنه كانت عندنا بلديات فشلت فأسسنا مجالس جهوية، وبدلا من تقويم التجربة وإمدادها بصفتها حالة ضرورية لتطوير المجتمع، وضرورية لخلق الوعي والديمقراطية المحلية وضرورية للتنمية عبر المجتمع، وكان من المفروض أن نقيم هذه التجربة التي بدأت منذ 1986م. وبعد ما يزيد على ثلاثين سنة  تبين فشلها لغياب الموارد المالية والموارد البشرية ،والصلاحيات التي ينص عليها  القانون لم تسلم لها الإدارة تلك الصلاحيات ،وكان من المفترض ألا نفكر في إنشاء المجالس الجهوية حتى نقوم بإنجاح تجربة البلديات.

وكما أن الموريتانيين يتحدثون عن إحياء المدن القديمة ولا ينبغي أن نتحدث عن المدن القديمة حتى تصبح لدينا مدن حديثة ،ونحن ليست لدينا مدن بمواصفات عمرانية فلا حدائق أو بنى تحتية أو منتزهات، وهذه هي المشكلة بمعنى أن البلديات لم تعط لها الصلاحيات ولم تمد بالموارد البشرية والمالية اللازمة ،وبالتالي أصبحت كيانات بلا مسمى وقد قامت منظمة الأمم المتحدة بدراسة حول بلديات موريتانيا، وكان مما توصلت إليه أن 96% من العمد يقيمون في مدينة نواكشوط وخاصية العمدة أنه من السكان المحليين ويعرف أحوالهم يوميا.

وقد قلت في ندوة أقيمت بشراكة بين جهات موريتانية وأخرى مغربية إن تجربة المجالس الجهوية تجربة ولدت ميتة أولا؛  لأن أساس تجربة التنمية المحلية والديمقراطية تقوم بها البلديات، والبلديات فشلت،  وثانيا لأننا لم نقم بإجراء الدراسات الكافية وتمهيد الأرضية؛ لكي يكون التقسيم الجغرافي تقسيما مناسبا ،وهناك تناسب بين الأوضاع الجغرافية والمعطيات البشرية والمعطيات الاقتصادية ،وحشدنا لها التمويلات اللازمة وعرفنا العوامل التي أدت بالبلديات إلى فشل تجربة البلديات كي لا تحصل مع المجالس الجهوية، ثم ننظر هل التطور ونمو الوعي ومتطلبات التنمية  المحلية   تتطلب مجالس جهوية ستستنزف موارد جديدة ولا تقوم بدور فيما لو أعطيت للبلديات كان بالإمكان أن تنجح تجربتها.

إذن فعامل ترهل المؤسسات يساهم فيه عاملان رئيسيان أولهما أن أمورنا كلها لا نقوم بها انطلاقا من دراسات علمية.

 والعامل الثاني: أننا إذا خلقنا أجهزة جديدة لا ننشئ لها آليات المتابعة والتقويم. وكثيرا ما تكون مشاريع سياسية أو مرتجلة؛ وبالتالي نقوم بإنشاء جهاز وحينما يفشل لا نقضي عليه بل نخلق جهازا آخر وهكذا.. فمفوضية الأمن الغذائي من السبعينات وكان دورها توزيع الإسعافات على المواطنين فلا هي حققت شيئا في مجال الزراعة ولا هي حققت شيئا في مجال الأمن الغذائي فأكثر من 70% من الموريتانيين يعانون من الفقر والمجاعة، ورغم ذلك فهي باقية منذ 40 سنة والنتيجة أننا لم نحقق الأمن الغذائي ،وجعلت مجتمعنا مجتمعا كسولا لا يشتغل ،وينتظر الإعانات وكان من المفروض أن توجه الإعانات الخارجية إلى تنمية حقيقية تدفع الإنسان إلى العمل وتخلق له ثروة حقيقية من خلال الزراعة، ومن خلال التنمية الحيوانية و مشاريع مدرة للدخل تخلق ثروة وقيمة مضافة، وأضفنا إليها مؤسسة التضامن وفشلت ثم جئنا بمفوضية حقوق الإنسان والأمن الإنساني، لتفشل هي الأخرى وفي الأخير أتينا بمندوبية تآزر.

ولم نفكر في أنه لا بد من إعادة هيكلة القطاعات الحكومية ،بما يخدم التنمية وبما يقلل من هدر الموارد البشرية والمالية؛ لذلك أضحت عبارة عن كم هائل من الأجهزة ينخره الفساد ولا يمتلك موارد بشرية أو مالية تمكنه من القيام برسالته.

 

موقع الفكر: هل لديكم معطيات عن حجم الفرص التي أهدرت بسبب الفساد؟

د. ديدي بن السالك: كل الفرص التي أتيحت لموريتانيا خلال العقود الماضية أهدرتها، فأهدرت فرصة ثروة حيوانية وتطويرها ودمجها في الاقتصاد الوطني وفرصة وجود النهر والأودية الزراعية والثروة المعدنية نفس الشيء والدليل على أننا لم نقطع خطوة في تصحيح الاختلالات البنيوية التي صاحبت تجربتنا خلال ستين عاما هو أن أول اجتماع لحكومة المرحوم المختار بن داداه في سنة 1957م. كان في جدول أعماله الوحدة الوطنية وتطوير الثروة الحيوانية ودمجها في الاقتصاد الوطني وتطوير الزراعة، وما زلنا عاجزين عن إنتاج حفنة من الطماطم.

وضيعنا كل هذه الفرص لأننا لم نؤسس هذه المشاريع على أساس من العلم ولم تكن هناك رؤية استراتيجية يقوم عليها المشروع.

 والسبب الثاني الذي صاحبنا طيلة الفترات الماضية هو غياب آليات المتابعة والتقويم وسأعطيكم مثالا كثيرا أضربه وهو أن المواضيع التي ركز عليها الرئيس السابق معاوية بن الطائع كالمرأة والزراعة والكتاب ومحو الأمية لم  نتقدم فيهم لماذا؟ لأننا أنفقنا أموالا كبيرة ولكن ليست لدينا آلية للمتابعة والتقويم، مما جعل النظام يستمر خلال عقدين من الزمن في هدر أموال وكانت النتائج سلبية ولم نتقدم في الزراعة وزاد الطلاق والتفكك الأسري وزادت الأمية عندنا لأن منبعها في الأصل هو التسرب المدرسي.

 والمسألة الثالثة هي: الفساد وكلما حصلنا على موارد يهدرها  إما بسرقتها مباشرة وتحويلها إلى حسابات في الخارج وإما بفعل أن القائمين على المؤسسات العمومية لا يمتلكون الكفاءات لتنفيذ هذه السياسات والمشاريع، وتراكم هذه التجربة جعلنا في كومة من تراكم الفساد والعجز والإحباط جعل الكثير من خبرائنا وخيرة نخبنا إما أن تضطرها الظروف إلى أن تندمج مع الأنظمة فتصبح فاسدة وإما أن تعيش على الهامش أو تهاجر وهو ما يجعلنا أمام أزمة أخلاقية حقيقية متعددة الأبعاد، أزمة قيم، أزمة مجتمع ومعالجة الاختلالات في الأخلاق العامة وأزمة ثقافية وأزمة تعليم منهار، وأزمة مالية واقتصادية نتيجة مديونية تزيد على 100% من الناتج  الداخلي الخام   بالإضافة إلى حجم الإحباط من إعادة إنتاج الفشل وصار المجتمع يرى أن  كل سلطة تأتي ستنتج نفس الأساليب والسياسات التي كانت قائمة من قبل،  ونخرج من التجربة ونحن في وضعية أسوأ مما كنا عليه، والدليل على ذلك أننا في العشرية الأخيرة عندما جاء الرئيس محمد بن عبد العزيز ورفع شعار مكافحة الفساد صحا الشعب الموريتاني على أن ما عاشه كان نهبا وتدميرا لكل شيء.

 

موقع الفكر: ما سبب الاختلال الحاصل في التعليم؟

د. ديدي بن السالك: أزمة التعليم في أن كل الإصلاحات التي تمت فيه كانت  قرارات سياسية ارتجالية تراكم الفشل  زاد على ذلك إهمال العنصر البشري من معلمين وأساتذة زاد على ذلك أيضا  الفساد الإداري والمالي في هذه المؤسسات؛ وبالتالي أصبح هناك فساد في المعلمين، وانتشر الغش، وحتى إن المدارس العمومية لم تعد فيها خدمة التعليم أصلا، وما هو موجود من التعليم هو في جزر معزولة في القطاع الخاص أو في المدارس الأجنبية، وبالتالي وقع الفشل المدرسي فانهارت البنى التحتية رغم بناء بعض المدارس في العقود الماضية وإهمال الموارد البشرية أدى إلى ترهلها وخروج الكفاءات منها، فتم تعيينها في قطاعات أخرى أو تسربت وصار عندنا 75 إلى 77% من المدرسين في التعليم الابتدائي والإعدادي غير قادرين على القيام بواجباتهم بما أنهم عقدويون لم يتلقوا التكوين اللازم ومن كونوا ذهبوا إلى قطاعات أخرى أو جرفهم الفساد والبنية التحتية منهارة والمعنويات منهارة والإدارة غائبة لعدم كفاءتها، وما لم نضع استراتيجية لإصلاح التعليم تقوم على العناية بالعنصر البشري ماديا ومعنويا وتأهيله وتأهيل البنى التحتية  وتحديث المناهج و مواكبتها لتطور العالم واستخدام التكنلوجيا سيبقى التعليم يدور في نفس الحلقة مع مشكل الهوية ومشكل اللغة الذي صاحبه منذ نشأته فمشكل التعليم يتداول سياسيا ولا يتداول علميا وتربويا، والمفروض أن تعالج اختلالاته.

وإذا أردت أن تصلح أي قطاع من قطاعات الدولة فإن عليك أن تصلح التعليم وإذا لم يصلح فستفسد كل القطاعات كما هو الحال الواقع الآن وإذا أردنا إصلاحه كما قلت لا بد من التركيز على إصلاح العنصر البشري من حيث جعله في أوضاع مادية مريحة وتحسين مستواه المعرفي وإعادة الاعتبار النفسي له وهذا هو المحور الأول.

 والمحور الثاني هو حسم مسألة الهوية التي أنهكتنا من التعريب والفرنسة والتردد بينهما والمحور الثالث تحسين البنى التحتية وتزويدها بتكنلوجيا الاقتصاد الرقمي والإجابة على سؤال كبير لا يمكن أن نجيب عنه إلا إجابة علمية ما هو الجيل الذي نريد لموريتانيا بعد عقدين أو ثلاثة  من الزمن؟

 وإصلاح التعليم يحتاج إلى كثير من الموارد وكثير من الإرادة.

 

موقع الفكر: ما معلوماتكم عن حجم تزوير الشهادات في موريتانيا؟

د. ديدي بن السالك: لا أمتلك رقما لأنه لا توجد أرقام دقيقة في موريتانيا، ولكن ما تعرفه من الناس الذين يحملون شهادات الدكتوراه ولم يدخلوا التعليم في الأصل وإن كانوا دخلوه لم يتجاوزا مرحلة السنة الأولى يعطيك مؤشرا على حجم تزوير الشهادات، وكنت مرة أتفرج على التلفزيون فشاهدت حلقة فيها عشرة ضيوف وكلهم يطلق عليه لقب دكتورا وما فيهم من الدكاترة إلا شخص واحد أو آخر سجل لشهادة الدكتوراه ثم إن أغلب من تراهم معينين في مجلس الوزراء سيرهم الذاتية غير دقيقة بنسبة 90%، ويقول أحد الزملاء وهو دكتور كان يعمل مع برنامج الأمم المتحدة للتنمية إن تزوير الشهادات في موريتانيا لا يقل عن 70%  وقد يصل إلى 80% والشيء المؤكد أنه منتشر بكثرة، وأن السلطات عندما تحاول أن تفتح ملفه يوقف نتيجة لقوة لوبيات الفساد المستفيدة منه، لأن بعضا منهم وزراء وبعضهم في مناصب حساسة في الدولة ،ولوبي الفساد أقوى إذا لم توجد إرادة سياسية من طرف السلطة لمواجهته.

 

موقع الفكر: لماذا السكوت عنه؟

د. ديدي بن السالك: نتيجة لتواطئ الأطراف وحجم الانتشار والاستفادة منه أعداد كبيرة في مختلف أجهزة الدولة، وأول محاولة لفتحه كانت في عهد الرئيس محمد بن عبد العزيز وأوقفت بسرعة.

 

موقع الفكر: يرى البعض أن إصلاح 99 19م. وحد الشعب لأنه وحد اللغة والمناهج؟

د. ديدي بن السالك: الواقع الحالي أن المدرسة العمومية تخرج حاليا أجيالا من الأميين في اللغتين الفرنسية والعربية ،وقد حصل لي أن ذهبت بأحد الأطفال إلى مدرسة يسمونها مدرسة التميز فزرتها مرات لأعرف الحقيقة، فوجدت أن المعلمين يأتون إلى الفصول ولا يدرسون و ليست لديهم الرغبة والدافع.

 

موقع الفكر: ما تقويمكم لأداء العقدويين؟

د. ديدي بن السالك: ظاهرة العقدويين مظهر من مظاهر الفساد لأنه من المفروض أن نكتتب سنويا ما نحتاجه من المعلمين والأساتذة، وأن يتم تأهيل الموجودين، وإذا لم نجد ما يكفي من المدرسين نستجلب المعلمين من الخارج كما حصل في مرحلة السبعينات وبداية الثمانينات، وما يحصل حاليا هو عملية فساد كما تقوم بذلك كثير من دول العالم.

موقع الفكر: هل ما يحصل في التعليم الابتدائي والثانوي هو ما يحصل في التعليم العالي؟

د. ديدي بن السالك: في كل المستويات حاليا لا يوجد في موريتانيا تعليم على أي مستوى من المستويات ،بل يأتون من التعليم الابتدائي والثانوي وليست لديهم رافعات وحتى الكثير من أساتذة التعليم العالي يمارسون الفساد، وبعضهم شهاداتهم مزورة وبعضهم ليس مؤهلا لأن يكون أستاذا جامعيا لعدم ارتباطه بالبحث العلمي والتعليم العالي بدون بحث علمي عبارة عن ثانويات كبيرة والأستاذ الجامعي عندما ينقطع عن البحث العلمي يرجع كأي مواطن آخر.

 

موقع الفكر: هل توفر لكم الجامعة الوسائل المتعلقة بالبحث العلمي؟

د. ديدي بن السالك: لا يوفرون أي شيء ومن المفترض أن يكون للأستاذ مكتب في الجامعة التي يعمل فيها وأن تكون له ميزانية خاصة بأسفاره، ومن المفروض ألا يقل نشره عن ثلاثة أبحاث سنويا، ضمن مجموعة من المعطيات تخلق مناخ البحث العلمي وتتيح له المشاركة في تجديد معلوماته، وقد توقفت عن الإشراف على الطلاب لأن بعضهم يذهب إلى الانترنت ويسحب بحوثا ،ولا يغير فيها شيئا ويناقشه فيها بعض الأساتذة والطالب ليس لديه مستوى يؤهله لكتابة بحث أصلا.

وأنا حاليا أدرس للطلاب مادة البحث العلمي ولكن لم يعد فيهم من باستطاعته كتابة بحث علمي، والأستاذ الجامعي من المفترض أن يقاس بمدى نشره الأبحاث للـتأهيل والترقية وكثير من الجامعات تشترط على الأستاذ الجامعي نشر ثلاثة بحوث سنويا والمشاركة في عدد من المؤتمرات.

فهناك عدة معايير يتم على أسسها تقويم الأستاذ الجامعي، ويتم على أساسها منحه عدة تحفيزات منها ما يتعلق بالتشجيع على البحث العلمي وجانب آخر يتعلق بالأسفار وجانب آخر يتعلق بالإنتاج الفكري وجانب آخر يتعلق بالتدريس والأستاذ لا يقوم عندنا بأي من الأدوار لأن التعليم عندنا لم يصمم لكي يكون تعليما عاليا، لأن التعليم فيه البحث العلمي والقوة الناعمة للدولة والتدريس لتأهيل الموارد البشرية، لأن المشروع بدأ معاقا وظل يمرض مع أزمة موريتانيا إلى أن صارت الأزمة أزمة شاملة لأن الفساد أصبح فسادا بنيويا في كل المجالات حتى رجالات الدين المفترض أن يكونوا قدوات أصبحوا مساهمين في الفساد في تبرير الغش.

 

موقع الفكر: ماذا عن ظاهرة الغش؟

د. ديدي بن السالك: أصبح ظاهرة منتشرة حتى إن الناس تنتقل إلى الأرياف والأماكن وبلغني ولم أشاهد أن بعض العائلات الميسورة تؤجر أساتذة ومعلمين وتصطحبهم لكي يساعدوا أبناءها على الغش، وأن الامتحانات تحل على السبورة وينقلون الإجابة في أوراقهم ويكون التلميذ في السنة الإعدادية ويجري امتحانات شهادة البكالوريا وينجح وهو لا يمتلك مستوى يمكنه من النجاح.

 

موقع الفكر: ما مستقبل التعليم في الوضعية الحالية؟

يحتاج إصلاحا شاملا يكون فيه اعتبارا للبحث العلمي وإعادة تجديد الشعب وتأهيلها والاهتمام بشعب المستقبل، واعتبار أن التعليم العالي جزء من القوة الناعمة لموريتانيا  وصورتها الخارجية وأن تكون بنية التعليم العالي التحتية وأساتذته  المؤطرون فيه قادرين على تخريج أجيال مكونة تكوينا تستطيع النهوض بالتنمية.

 

موقع الفكر: هل الشهادات الموريتانية معادلة بالخارج؟

د. ديدي بن السالك: الاعترافات بالشهادة جزء منه يتعلق بالسياسة وعلاقات الدول، وجزء منه يتعلق بالناحية الأكاديمية وفي بعض المرات ينظرون إلى المواد التي درس فإذا كان لديه نقص في بعضها يدرسونها له فصليا، وليس بالضرورة أن تقول الدول إن تعليمكم فاسد وبالتالي فلن نعترف بشهاداتهم فالاعتراف يتعلق أحيانا بالسيادة والصداقة والأخوة.

 

موقع الفكر: هل من كلمة أخيرة؟

د. ديدي بن السالك: أوصي بأن البلد يحتاج إلى إصلاح شامل، ولكن البداية من الموارد البشرية بـتأهيلها من حيث المعرفة والخبرة ،ووضعها في أوضاع مادية مقبولة تستطيع من خلالها أن تنهض بالبلد. والتفكير بشكل عميق في هيكلة القطاعات الحكومية ومؤسسات الإدارة ،وتأهيلها وتجديدها وجعلها قادرة على متطلبات التنمية ومستجيبة لمتطلبات العصر.