الحل في التحرير / الرئيس محمد جميل منصور

 تنشيطا لذاكرة بعض الأحبة، وحتى يدركوا أني لست بتلك الدرجة من "ادكديك الراص" وخوفا من أن يجعل البعض من أخطاء حالية مبررا للزهد في دعوة العدل والحقوق والتخلي عن طرح المظالم بالاسلوب المعتدل المناسب، وحذرا من الانجراف وراء فوبيا "الخطاب الشرائحي" التي يطلقها البعض كيف شاء وفي حق من شاء، أعيد نشر هذا المقال القديم والذي كتبته وأنا رئيس الحزب حينها (2014) وأزعم أن لا مكتوب أو مسموع لي يناقض ما طرحته فيه مما أعتبره توازنا مطلوبا.

الحل في التحرير 

تابعت في الفترة الأخيرة وخصوصا بعد مسيرة روصو وما تبعها من قمع واعتقالات بعض ما كتب وقيل حول المسألة الاجتماعية وموضوع الحراطين وإشكال الاسترقاق، ووجدت أن كلا تناوله من موقعه أو زاوية معرفته واهتمامه، وقد رأيت أن أُسهم في هذا الحوار الذي تجاوز فيه البعض فاشتط ودافع البعض ففجر وبرر البعض وسوغ فأخطأ وأساء ..

   

إن هذه القضية تستلزم تحررا ويلزم في حقها التحرير، تستلزم التحرر من القيود والمصالح والمواقع، فأن تظل أسيرا لمنطق ومسار أنتج هذا الوضع المختل، أو مقيدا بمواقع لم تخترها أو انتماءات قدرية هي للاعتبار وليست للتفاضل أو التعالي، أو موجها بمصالح يلزم لها خطاب معين ويضر بها الاعتدال أو التوازن، فكلها أمور سلبية  و قطعا لا تخدم ما ينبغي أن نكون في صدده أو إليه نسعى من مساواة في كنف الأخوة ومواطنة في إطار الانسجام ورفع ظلم لا ينتج انقساماً .. 
إن التحرير هو الحل، والتحرير هنا يحتاجه الجميع ويلزم  في حق مختلف الأطراف، وقد رأيت ـ والله الموفق والمسدد ـ أننا بحاجة لتحرير الرؤية الإسلامية مما شابها ويصر على الاحتماء بها من تصور استعبادي لا سند له من وحي ولا معتمد له في مقاصد الشرع، وتحرير الخطاب الاحتجاجي والحقوقي من التحريض والكراهية والإثارة التي تكسب المناعة ضده وتدفع نحو التوتر والصراع أكثر مما تشرح مظلمة  أو تناضل من أجل حقوق، وتحرير الموقف المجتمعي والتقليدي من دفاع عن ماض لا ينهض الدفاع عنه وتبرير واقع أنتجه الظلم وساد فيه التهميش، وتحرير سلوك الدولة ومؤسساتها من سياسات اللف والتحايل والتجاهل .. 
وخلاصة تحرير المسألة من منطق التجاهل وأسلوب التضخيم ومنهج التبرير. 
في تحرير الرؤية الإسلامية: 
البداية من هنا، ففي هذه البلاد يشكل الإٍسلام مرجعية لا سبيل إلى التشكيك فيها وكل نهضة أو تحرر لا تتأسس على هذه المرجعية لن تنال القبول ولن يكتب لها الاستمرار ... 
من هنا فإن عملا جدياً يؤسس على أصول الدين ويهتدي بمقاصد الشرع أصبح ضرورة ملحة، وليس مناسباً هنا التقليل من قيمة المقاصد بحجة أنها غير منضبطة وأنها بضاعة المتأخرين ولم يبوب لها المتقدمون! .. فالمقاصد ـ وقد أصبحت علما يدرس وحده إلى جانب أصول الفقه ـ لازمة لكل من يريد أن يفهم الشرع فهماً متكاملاً لا يأسره الماضي ولا تقيده الجزئيات، وكما قال شيخ المقاصد أبو إسحاق الشاطبي: "وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً"، فذاك المقصد الرئيسي ، وهذا العلم مذكور تصريحا أو تضميناً عند كثير من علماء المسلمين الأعلام نذكر منهم أبا عبد الله محمد بن علي الترمذي، وأبا منصور الماتريدي وأبا بكر القفال وأبا بكر الأبهري والإمام الباقلاني وأبا الحسن العامري وابن بابويه القمي، أما آثار إمام الحرمين الحويني وأبي حامد الغزالي والرازي والآمدي والعز بن عبد السلام وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم فمليئة بأمر المقاصد تصريحاً وتفصيلاً .. 
يقوم هذا العمل الجدي على فهم صحيح لموقف الإسلام من الرق وممارسته، ونزعم أن هذا الموقف تأسس على استراتيجية ثنائية الأبعاء: المعاملة للتكيف/ والتجفيف للإنهاء؛ فأما البعد الأول فارتقى بالرقيق تاريخياً إلى مستوى الإنسانية والمساواة وكانت خطواته: 
1-    تصحيح منطق التفاضل 
2-    أدب الخطاب وكف الإيذاء 
3-    العدل في الانفاق والقسط في التكليف 
4-    المؤاخاة والتقديم 
وقد أدت هذه المعاملة للتكيف (تفاصيلها في محاضرة منشورة على اليوتوب) إلى وضع جديد: تقبل فيه أسرة من الأنصار الزواج من بلال ـ رضي الله عنه ـ وأخيه وتزوج فيه زينب بنت جحش إلى زيد بن حارثة ويقود فيه أسامة جيشاً يضم كبار الصحابة، وقد أحسن ابن الصلاح في مقدمته في شرح مآلات هذه المعاملة عند حديثه عن النوع الرابع والستين "معرفة الموالي من الرواة والعلماء". 
أما البعد الثاني فالتجفيف للإنهاء ، فمقابل إصلاح أوضاع القائم من الرقيق حينها تحركت آلية التجفيف (التفاصيل في المحاضرة المذكورة) وجاء على النحو التالي: 
1-    إغلاق الأبواب المنشئة للرق: كالاسترقاق بسبب الدين، أو ارتكاب الجرائم وغيرها، وشدد الشرع في النكير على بيع الأحرار ومقابل سد هذه الأبواب لمنع الاسترقاق الطارئ جاء الإكثار من أسباب العتق وجوبا وندباً وتحبيباً: 
شُرعت المكاتبة (وكما قال عطاء لابن جريح حين سأله: أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه: ما أراه إلا واجباً). البخاري. 
وكان العتق كفارة للقتل الخطأ وكفارة للحنث وكفارة للظهار، وبوب الإسلام على العتق من مال الزكاة .. وتعبيرا عن تشوف الشارع للحرية وحرصه على أي مخرج اعتبر عتق الهازل ماضيا كما جاء الترغيب في العتق واسعاً "فلا اقتحمَ العقَبةَ، وما أدراكَ مالعقبة، فكُّ  رقبة، ..". 
"منْ  أعتقَ رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار حتى فرجه بفرجه" .. وقد انتبه أهل العلم والنظرإلى أنك تجد في كتب الحديث "كتاب العتق" يبين فضله وطرقه وأجره ولا ذكر للاسترقاق ولا ترغيب ثم! 
ولم يبق الإسلام إلا بابا واحدا مقيدا ومفضولا هو استرقاق أسرى الحرب أحسن العلامة د. يوسف القرضاوي في توضيح أمره: "ولم يستثن (الإسلام) من الأسباب التي عرفها العالم مفضية إلى الرق إلا سببا واحداً ضيق فيه كل التضييق، وأبقاه على سبيل الجواز والاختيار لا سبيل الحتم والإلزام، ذلك هو استرقاق الأسير في حرب إسلامية شرعية لم يبدأ المسلم فيها بعدوان، وذلك إذا رأى إمام المسلمين وأهل شوراه في ذلك مصلحة للأمة والملة، وإذا كان العدو يسترق أسرى المسلمين" فقه الزكاة. 
ولننتبه إلى معنيين مهمين أما الأول فالمعنى الوارد في آية النساء "وماكان لمُؤمن أن يقتُل مؤمناً إلا خطأ، ومن قتلَ مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلّمَة إلى أهله .." الآية. 
فمقابل خروج مؤمن من عالم الإحياء.. يدخل جديد إلى عالم الأحرار .. فالرق موت والحرية حياة، فلتنتبهوا يا قوم .. 
أما الثاني فهو هذا المنطق والسلوك ودلالته .. فالإسلام يرغب في العتق ويفتح أبوابه حتى أمضى عتقَ الهازل، والإسلام يشدد النكير على الإهانة والإيذاء والاستغلال، والإسلام وضع المتاريس أمام الرق المتجدد كما رأينا .. أيُعقل أن يفعل دين كل هذا مع جزء منه أو مع مرغوب لديه، إن الاسترقاق ليس من الإسلام وإن شرع أحكاماً للتعامل معه ـ إن وجد ـ والشرع يتشوف للحرية ويسعى لها ويحميها والعبودية في منهجه وفلسفته هي لله الخالق الوهاب .. ولعل ذلك هو المنسجم مع الشعور النبوي الصادق في الحديث: ".. وما يزالُ يوصيني بالمملوك حتى ظننتُ أنه يضربُ له أجلاً أو وقتاً إذا بلغه عتق". 
في تحرير الخطاب الحقوقي: 
لقد طرح موضوع الاسترقاق والدعوة إلى القضاء عليه منذ حين في هذه البلاد وتبنتها قوى سياسية ابتداء ثم حركات اجتماعية ثم منظمات حقوقية .. وإنه من الموضوعية الاعتراف بأن هذا التراكم من الطرح والنضال أنتج ثقافة تحريرية وحشر في الزاوية كل المدافعين عن ظاهرة الاسترقاق أيا كانت أرضيتهم بل إن التطور الذي شهدته أطروحات جهات فكرية وسياسية عديدة في جانب منه  كان انعكاساً لخطاب التحرير هذا ومداه .. 
إلا أن السنوات الأخيرة شهدت نبرة زائدة وتطرفا ملحوظا في الخطاب الحقوقي والاحتجاجي في هذه المسألة كانت أهم مظاهره:    الاستهداف الصريح ـ وغير الموضوعي أحيانا ـ لمكونات وطنية بعينها، هي مثل غيرها فيها المدافعون عن الاسترقاق والمبررون لمخلفاته، وفيها الرافضون له الصريحون في رفع العقيرة ضده. 
   المبالغة في تناول الرموز الدينية في بلد يقدر هذه الرموز ولا يستسيغ استسهال النيل منها، ووقع خلط لا تسعفه العلمية ولا الموضوعية بين مراجع فقهية لا تنتمي للفضاء الموريتاني ـ يمكن الحديث عنها في مجال الاختصاص والمراجعة ـ وحالة موريتانية يجوز في حقها النقد والمساءلة والتجاوز
   استعمال أسلوب وعبارات تجاه الآخرين، كل الآخرين فيها ظلم وتجن وتدفع للتوتر والصراع أكثر مما تشرح قضية أو تنصر مظلوماً. 
إن حاجة الخطاب الاحتجاجي والحقوقي منه خاصة إلى هذا التحرير أصبحت ملحة، والضرر بالغ لهذه القضية من أسلوب التحريض ومنطق الإثارة .. 
في تحرير الموقف المجتمعي والتقليدي: 
في الرد على احتجاج المحتجين ومطالب الحقوقيين يبرز خطاب وموقف يبرر الماضي ويتجاهل حقائق الحاضر، ويشارك فيه كثيرون: تقليديون وقوى اجتماعية وسياسية عديدة، خلاصته أنه لا ضرورة في نقد الماضي ، وأموال وأعمال السابقين محمولة على السلامة والصحة! ولا رق اليوم في البلاد، والظلم زال والتهميش غير واقع ... 
إنه خطاب ينكر الحقائق ويتنكر للوقائع، وعليه يكون تحرير هذا الموقف من منطق التبرير والتهوين أولوية هو الآخر، والحكم بأخطاء الماضي وتجاوزاته ليست إدانة لآحاد الآباء ولا جلدا للتاريخ وإنما هو الاعتراف للتجاوز والذكر للإعتبار ولا معنى للانتقام طبعا فتلك أمة لها ما كسبت ولنا ما كسبنا ونكسب ، ويفيد كثيرا من المتخوفين الشاكين في شرعية دعوة التحرير المترددين في الحكم على الرق في هذه البلاد أن يعلموا أن التشكيك فيه ليس جديداً مع معاشر المعاصرين، فهذا الشيخ محمد فال ولد باب العلوي يقول: 
"وتجار العبيد كانوا في الزمن القديم يرحلون إلى بلاد السودان ويسرقون أبناءهم ويبيعونهم، والسودان أيضاً كان القوي منهم يبيع الضعيف وفيهم المسلمون، ومن هنا يحصل الشك في رق هؤلاء العبيد الذين في هذه البلاد"
وقبله كتب العلامة أحمد باب التمبكتي في معراج الصعود: 
"وربما تفاتن سلاطين هذه البلاد بعضهم مع بعض فيتحرك سلطان هذه البلاد على غيره ويغير على بلاده ويسبي ما تيسر له منهم وهم مسلمون، ويباع السبي وهو حر مسلم فإنا لله وإنا إليه راجعون". 
أما ممارسة الاسترقاق في هذه البلاد فما زالت قائمة، صحيح أنها تراجعت كثيراً وأصبح المخفي منها غالبا على المعروف المعلن ولكن حالات وبقايا منها تظهر بين الفينة والأخرى وفي عدد من المناطق، والقوانين بالمناسبة لا تسن للظواهر المنقرضة وإجماع الموريتانيين انعقد على قانون تجريم الممارسات الاسترقاقية أيام الرئيس سيد محمد ولد الشيخ عبد الله ـ ولم نعلم مخالفا لما تم حينها ـ والتقارير الداخلية والخارجية شاهدة على وجود الاسترقاق ـ وإن قل وانحسر ـ ووجود آثاره ومخلفاته وهي كثيرة وواسعة. 
من هنا فإن الأصوات التي ما فتئت ترتفع في دوائر رسمية وأخرى سياسية وشعبية أن الاعتراف بوجود الرق تشويه للبلد وأنه لا تمييز ولا تهميش، ففضلا أنها تجانب الحقيقة وتنكر المشاهد فإنها تغذي دعوات الغلو والإثارة، لأن الإنكار والتهوين من ناحية والمبالغة والتهويل من ناحية أخرى وجهان لعملة واحدة وكل منهما يمد الآخر بأسباب الحياة والإنتشار. 
في تحرير سلوك الدولة 
إن أجهزة الدولة وخصوصا القضاء والإدارة والأمن مطالبة أن تكون على مستوى التطور المطلوب، فحين أقر قانون تجريم الممارسات الاسترقاقية وقبله الموريتانيون وتحمسوا له كان من المطلوب أن تُفعّل مؤسسات الدولة في تطبيقه والصرامة مع المخالفين له والخارجين عليه .. إن تحرير سلوك القضاء وتحرير سلوك الإدارة وتحرير سلوك الأمن من التغاضي والتجاهل تجاه وضع اجتماعي مختل يتطلب صرامة القضاء وشفافية الإدارة ويقظة الأمن أولوية لا تقل عن سابقاتها، وحين يحس الساعون للحرية الرافضون للاسترقاق والصادقون والمنصفون من قوى الاحتجاج بجدية هذه المؤسسات وبنفاذ القانون ومتعلقاته سينخفض منسوب التوتر وسيتضح أن تجاوز الاسترقاق ومخلفاته والعمل في اتجاه مجتمع المساواة والمواطنة الحقة أصبح خيارا وطنيا إجماعيا لا سبيل للتقاعس في شأنه أو احتكار البعض لأمره .