الفكر(نواكشوط) في إطار مواكبة موقع الفكر لمجريات الساحة الوطنية، وسعيا منا إلى إطلاع متابعينا الكرام على تفاصيل الأحداث، بتحليل متوازن، ونقاش متبصر، نلتقي اليوم مع أحد الأكاديميين الموريتانيين، ممن عايشوا واقع التعليم، وخاصة التعليم العالي منه، فكان من رواده الأوائل الذين واكبوه طلية السنوات الماضية، إضافة إلى عمله في ميدان البحث والنشر، نحاوره ونستجلي من خلاله ما وراء الخبر، في لقاء شامل حول واقع التعليم بموريتانيا، إضافة إلى المشاكل التي تعترض العملية التربوية بموريتانيا وتعيق مخرجاتها عن بلوغ الأهداف المنشودة.
فأهلا وسهلا بضيفنا الكبير الدكتور ممادو صو كاني .
موقع الفكر: ما تقويمكم لواقع التعليم في بلادنا؟
د. مامادوگانيي صو: بالنسبة لواقع التعليم في موريتانيا أعتقد أنه لا يمكن إخراجه من واقع التعليم في السياق العالمي لأنه منذ فترة والتدريس يعرف تدنيا في مستواه، وفي موريتانيا التي تهمنا وتخصنا يمكن القول إن التعليم قد تراجع مستواه بنسبة كبيرة لا سيما منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي.
ويمكن إرجاع ذلك إلى العديد من العوامل كما قلت سلفا، وهناك مسؤولية الآباء والتلاميذ والمعلمين ،وهناك مسؤولية سياسية أخرى من حيث البرامج ومن حيث طريقة التدريس ومن حيث السياسة المتبعة في التدريس، وعلى العموم يمكننا القول إن التدريس يشهد مراحل متدنية وفي انحطاط مستمر مع تقدم الزمن.
موقع الفكر: ما تقويمكم للإصلاحات التربوية التي قيم بها وما العوامل التي أدت بها جميعا إلى الفشل؟
د. مامادوگانيي صو: بالنسبة للإصلاحات التي قيم بها؛ نظرا لتغيرها ونظرا لتغييرها من سنة إلى أخرى قبل أن تؤتي أكلها هذا كله دفعها إلى الفشل، وأعتقد أن الإصلاح والتغيير يتطلب العديد من السنوات، فإذا نظرنا إلى المرحلة الثانوية أحيانا تكون ست سنوات وأحيانا سبع سنوات ومرة هناك تغييرات وهناك تغييرات مضادة لا يمكنني أن أقول إن التغيير حسب الأشخاص ولكن حسب السياسات المتبعة والسياسات الممنهجة.
موقع الفكر: ما الأسس الموضوعية الفنية والعناصراللازمة توفرها للإصلاح الجاد؟
د. مامادوگانيي صو: نظرا لما للتدريس من أهمية فإني أعتقد أن الإصلاحات يجب أن تكون موضوعا متشاورا عليه ومتفقا عليه، وهذا قد يجعلنا في برامج متفق عليها ويمكن أخذها على مدى سنين، ولكن نظرا لكثرة التغييرات مع تغيير الشخصيات والحكومات فكل مرة هناك برامج وسياسات متبعة، وهناك إقصاء في الحوار وأعتقد بأن هذه الإصلاحات لا يمكن أن تكون ناجحة.
موقع الفكر: هل المشكل اللغوي مشكل سياسي أو تربوي؟
د. مامادوگانيي صو: المشكل اللغوي في موريتانيا هو مشكل سياسي بالدرجة الأولى، فإذا ما نظرنا إلى مشكل اللغة المتبعة في التدريس هل نتبع اللغة العربية أم الفرنسية أو الازدواجية وهذه العوامل تجعل التدريس مسيسا ،ومتى سيس التعليم فشل، وبالنسبة للتدريس في البداية أيام استقلالنا كان باللغة الفرنسية وبالضغوط أصبحت اللغة العربية تدخل في التدريس شيئا فشيئا إلى أن استحوذت على التعليم ،وكانت اللغات الوطنية من "بولارية" و"ولفية" و"سوننكية" تدرس ولسبب ما تم توقيفها، وكانت فرنسا تقف وراء إلغاء تدريس اللغات الوطنية لأن من يتحدث بهذه اللغات هم الذين يتكلمون اللغة الفرنسية وهم أكثر من المدافعين عن اللغة العربية وهذا حسبما أكد المسؤول عن هذا الموضوع.
وبالنسبة للتعليم وتعريبه أو فرنسته أو ازدواجيته فهي مسألة سياسية بحتة، ولكن المشكل المطروح والذي يجول في ضميري هو أن أبناء الشخصيات السامية في الدولة من وزراء ومديري الشركات وأبناء رجال الأعمال لا نراهم يدرسون مع أبناء الطبقة الفقيرة، ويمكنني أن أقول إننا إذا ما نظرنا إلى تلاميذ المدرسة الفرنسية أو مدرسة الساحل فإنهم من أبناء الطبقة الميسورة.
ولا أعتقد أن مسألة اللغة ما كان لها أن تكون عائقا في وجه إصلاح وهناك بعض الإدارات لا يمكن العمل فيها باللغة العربية كالبنوك التي تتعامل مع هيئات دولية لا تتعامل باللغة العربية ،ولا بد من رجال مزدوجين أو يتقنون اللغة الفرنسية أو الإنكليزية ،وهذا ما يجعلني أتساءل ما المراد بهذا السياسة وهل هي إقصاء لمن لا يمكن أن يوفر إمكانيات تمكنه من دراسة اللغة الفرنسية أو اللغة الإنكليزية أو أن هذا التعريب هو استعمار محلي للطبقة الفقيرة، لأن كل الأشخاص الذين يعملون في الشركات الكبرى إما أن يتقنوا اللغة الإنكليزية أو الفرنسية؟ وهذا ما يجعلني أطرح الاستشكال مرة لماذا هذا الإلحاح في التعريب بدلا من الدعوة إلى الازدواجية؟ وإذا ما نظرنا إلى البلدان المحيطة والناطقة باللغة العربية فتعليمها مزدوج وبعض جامعاتها تدرس جميع موادها باللغة الفرنسية ،ولكنهم يدرسون دراسة مزدوجة في الابتدائية. كما أن هذا يجعلني أطرح السؤال التالي: وهو لماذا تعريبنا إن كنا غير عرب لماذا نعرب وهو ما يجعلني أعتقد أن المسألة مسألة سياسية بحتة.
موقع الفكر: ما المخرج السليم في نظركم للخروج من الإشكال اللغوي؟
د. مامادوگانيي صو : أعتقد أن تدريس لغة واحدة قد يؤثر سلبا على تعليمنا والاقتصار على اللغة العربية واللغات الوطنية قد لا يكون حلا ،ولا يمكننا أن نتعامل بها في أروقة المؤسسات الدولية، وحتى بالنسبة للغة الفرنسية فقد أصبحت ضعيفة على المستوى العالمي فأغلب المؤسسات تعمل باللغة الإنكليزية وحتى إننا يمكن أن نلاحظ أن دولة رواندا خرجت من نادي الدول الافرنكفونية إلى نادي الدول الأنغلوكسونية ودولة الغابون هي الأخرى في طريقها للخروج وعندما أثير هذا الموضوع على إحدى القنوات الفرنسية كان الجواب أن الفرنسيين العاملين في مجالات الأبحاث العلمية حينما يتكلمون يتحدثون باللغة الإنكليزية ،والدول الأنغلوكسونية أكثر تقدما من الدول الأفرنكفونية وما زالت فرنسا تتكلم عن الإرث الاستعماري في حين أن الدول الأنغلوكسونية تنظر إلى المستقبل.
ولهذا أعتقد أن دراسة اللغة الإنكليزية مستقبلا ستكون أمرا لا بد منه وفي الاقتصاد العالمي، حتى إذا ما نظرنا إلى دول الخليج والدول الأخرى فهي دول ناطقة باللغة الإنكليزية ،ويجب أن نكون واقعيين مع أنفسنا، فمنذ الاستقلال مازلنا نتساءل من نحن! ومتى نعرف من نحن كي نتمكن من إخراج البلد من المأزق الذي فيه.
موقع الفكر: بصفتكم أستاذا جامعيا هل يمكن النهوض بالتعليم في ظل الواقع الذي يعيشه المدرسون حاليا بدون رواتب مجزية أو مساكن لائقة ؟
د. مامادوگانيي صو : بالنسبة لي لست موظفا ولكني أعتقد أن المسألة تتعلق بأسباب موضوعية وذاتية إذا ما نظرنا من حيث تدني الأجور يمكن القول إن العديد من الموظفين أجورهم ضعيفة، وإذا ما نظرنا ما كان يحصل عليه المعلم والأستاذ في السنوات الماضية يمكن القول إنه كان متدنيا ،ولا يمكنني إرجاع تدني التعليم إلى العوامل المادية وحدها ،ولكن نحن في ظرفية أصبحت المادة تطغى فيها على جميع المجالات، فهي أولا مسؤولية، فالأستاذ وقع العقد وهو يعرف كم يتقاضى وبمجرد توقيعه أصبح يخضع لمبدأ العقد شريعة المتعاقدين ،ثم زيادة على ذلك أعتقد أن المسألة لم تعد مسألة مادية وإن كنت أعترف أن أجورهم متدنية ولكن لو أن أي شخص منا عمل بصفته مواطنا بثقة وبأمانة لتجاوزنا بعض المسائل ،وإن كانت أجور المعلمين متدنية فإنهم يمارسون أعمالهم ولم يستقيلوا من وظائفهم ،وأدنى ما يقومون به هو بعض الإضرابات، ونظرا لأنهم لم يستقيلوا فالمسؤولية ملقاة على عواتقهم مع الاعتراف الكامل بأن الأجور متدنية.
موقع الفكر: ما أسباب النسب الكارثية في نجاح التلاميذ في المسابقات الوطنية وهل ترونها مظهرا من مظاهر الجدية والصرامة أم هي مظهرمن مظاهر الفشل؟
د. مامادوگانيي صو : في السابق حينما كانت نسبة النجاح ضئيلة كان يمكن إرجاع ذلك إلى الجدية في التصحيح لأن المستويات كانت متوفرة، أما إذا قمنا بمقارنة ما مضى مع ما هو حالي فيمكن أن أقول إن السبب عائد إلى ضعف مستويات التلاميذ. ولو أخذنا بعين الاعتبار الأخطاء اللغوية والأخطاء الإملائية والصرفية والنحوية بالنسبة لأهل الأدب لكانت النسبة أسوأ مما عليه الآن، ولكن على العموم التلاميذ ضعيفو المستويات ،ولكن كما قلت في البداية إن التلاميذ ضحايا للتعليم منذ الابتدائية فالتكوين في المرحلة الابتدائية يكاد يكون عديما، وفي الإعدادية والثانوية يكاد الوضع يكون شبيها لسابقه ،ولا أرجع ذلك إلى جدية التصحيح لأن بعض المصححين يقولون إنما صححوه كارثي ولكن لا يمكن أن يرد ذلك إلى التلاميذ لأن الشخص لا يمكننا أن نحكم عليه دون إعطائه ما به يمكن أن يحاكم.
فالطفل غالبا ما يكون ذكيا و إذا ما درس تدريسا صحيحا وموضوعيا لا بد أن يستوعب ما درس أما إذا كان التكوين ضعيفا في المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية ناقصا فلا يمكن إلا أن يؤثر ذلك سلبا على الطفل.
موقع الفكر: التدني الشديد لتصنيف جامعتنا الوحيدة هل له علاقة بفشل إدارة التعليم الابتدائي والثانوي؟
د. مامادوگانيي صو : أعتقد أن التعليم العالي ثمرة للتعليم الثانوي الذي هو ثمرة للتعليم الابتدائي فحينما تكون المستويات في التعليم الابتدائي والثانوي على ما هي عليه ،فلا يمكن تغييرها فجأة في الجامعة وأعتقد أن المستوى الذي يأتون به من الصعب تغييره في الجامعة.
موقع الفكر: إلام ترجعون الأزمة المستفحلة في القدرة الاستيعابية لمؤسسات التعليم العالي؟
د. مامادوگانيي صو: على أية حال، بالنسبة لموريتانيا معروفة بقلة النجاح في البكالوريا إلا م ترجع! إلى ضعف قدراتنا الجامعية أو إلى تحديد العدد الذي يرسل إلى الخارج ! وهي ظاهرة قديمة كما قلت سابقا وهل هناك من حلول متخذة لمعالجة أو لتغيير هذه الوضعية أرجو ذلك، وقدرات جامعتنا ضعيفة إذا ما نظرنا إلى قلة الكليات وقلة التخصصات المنحصرة في بعض المدارس وأعتقد أنه ينبغي إنشاء المزيد من الكليات لاستيعاب عدد أكبر وفي السنوات الأخيرة أنشئت عدد من الكليات والمعاهد وعدد من المدارس وهي من الإيجابيات التي يمكن ملاحظتها وهي حتما ستؤدي إلى كثرة الناجحين أما إذا بقينا على هذه المرحلة أربع كليات وبعض المعاهد فهذا العدد يجعلنا لا نحتاج إلا إلى عدد قليل من الناجحين في البكالوريا، لنتمكن من احتوائهم داخل هذه المؤسسات.
موقع الفكر: هل كلمة أخيرة؟
د. مامادوگانيي صو : أعتقد أن التعليم هو صلب الموضوع ، هو صلب ركائز الدولة فالجنرال ديغول عندما عاد منتصرا في الحرب العالمية الثانية "قيل له إن الألمان دمروا كل شيء فسأل هل دمروا المؤسسات التعليمية ؟ فقيل له إنهم لم يدمروا منها شيئا فقال إذن لم يدمروا شيئا" ،وأعتقد بأنه لإنجاح الدولة لا بد من تعليم جيد وأعتقد أن المدارس الخصوصية أثرت سلبا على التعليم ،وحبذا لو كنا كألمانيا التي حرمت على نفسها التعليم الخصوصي، فابن الوزير على نفس الكرسي مع ابن الفلاح، وكثرة المدارس الخاصة والامتياز إلخ.. تترك البون شاسعا ما بين أبناء الطبقة الميسورة والطبقة العاملة.