مهرجان " بوغريس"  الثقافي- أبو محمد بن أحمدو الخديم

ما قبل البداية؛
في أحد بلدان هذا العالم العربي، اجتمع أشخاص في قاعة صغيرة، أو مكتب رسمي، أو تحت خيمة، لا فرق.. كانوا بكامل حضورهم الجسدي، أما الحضور الذهني فموزع بين تصفح الهاتف، وتحريك الأوراق، وانتظار الدور للكلام..
الغاية كانت واضحة: يجب إقامة مهرجان.. ليس لأن هناك فكرة ولدت، ولا لأن الحاجة المجتمعية استدعت، بل لأن المدن المجاورة، أو القبائل المساكنة أقامت مهرجاناتها، وهذا وحده كاف للشعور بالتأخر.
التأخر يفسر، في بيئتنا، على أنه فشل، أو ضعف في الطموح، وربما اعتراف ضمني بأن الآخرين أفضل.
طرحت بعض الأسئلة العابرة:
هل نملك محتوى؟ هل لدينا جمهور؟ هل توجد أهداف؟
لكنها أسئلة تطرح لرفع العتب، لا للحصول على إجابة.
الأولوية كانت للشكل: اسم لامع، لافتة ضخمة، منصة مزينة، كاميرات، وصوتيات تشي بوجود حدث.. هكذا، تم الاتفاق على أن يرتكز الافتتاح على ثلاثية المهرجانات المعهودة: كلمات المدير، العمدة، الوزير.
ما بعد ذلك، يملأ بالمعارف، والأصدقاء، وعشاق الميكروفونات، ومحبي الإضاءة، وأهل الطابور الخامس من الوجوه المعروفة في كل مهرجان لا يعرف له سبب.
     أما الاسم، فاختير بعناية عشوائية: " مهرجان بوغريس الثقافي".

بطاقات الدعوة:
تمت طباعة بطاقات دعوة، تخلو من التاريخ، وتفتقر إلى التوقيت، ولا تحمل وسيلة تواصل. وبالطبع فالجميع مدعو، لأن الحضور أهم من الانتماء، والمكان أهم من المعنى.

المهرجان..
   عقد المهرجان في فضاء مجهز هندسيا، لا ثقافيا،  كل شيء كان في مكانه: منصة مرتفعة، كراس مصطفة برتابة، مكبرات صوت ضخمة تشكو ضوضاء التقابل، كاميرات تلتقط المشهد بلا روح، وأشخاص يرتدون وجوها جادة تحاول أن تبدو مهتمة.
    عند المدخل، ارتفعت لافتة ضخمة كتب عليها عنوان المهرجان.. عنوان لم يثر فضول أحد، لا من الحاضرين، ولا من لجنة التنظيم..
لم يطرح أحد سؤالا حول المعنى، أو العلاقة بين الاسم والمحتوى، لأن الأسئلة في مثل هذه المناسبات تعد خروجا عن النص، ومساسا بالهيبة الرسمية.. إلا ما كان " همسا"  من بعض الحضور غير المنضبط، هل لبوغريس مهرجانكم علاقة بكائن حي معروف في الذاكرة الشعبية، يشتهر بعضه لبعض مشاريع دولة عربية كبرى وبعض مكونات حكومتها؟! (يقال إنه عض مشروع عصرنة مدينة انواكشوط وجامعها، ووزارة الشؤون الاسلامية والتعليم الاصلي، ووزارة الثقافة والفنون والاتصال، وأداء بعض أعضاء الحكومة).
آخرون ظنوه اسما لقرية نائية، أو رمزا أسطوريا، أو مجرد نكتة اخترعها أحد المنظمين وأخذت على محمل الجد..

افتتاح بلا سيناريو؛
   رغم غياب التوقيت الرسمي، بدأ الافتتاح حين عادت الكهرباء واستقر الميكروفون.
تقدم شاب عشريني إلى المنصة، مرتبك الملامح، مجهول الدور، فطلب عشوائيا من أحد الحاضرين أن يفتتح بتلاوة عطرة.
قرأ الشاب بتوتر، ثم تعثر، ثم انسحب وسط صمت يشبه الاحترام، لكنه أقرب إلى الإحراج.
تبع ذلك نداء وحداء: " ندعو الآن المدير العام للمهرجان، وصاحب الفكرة..."
تصفيق تلقائي..

كلمة المدير
   صعد المدير بخطى واثقة لا تبررها التجهيزات، وبدأ بكلمة طويلة حملت الكثير من الزخرفة اللغوية، والقليل من المعنى:
" أيها الحضور الكريم،
أرحب بكم ترحيبا ينمو كما تنمو الرؤى في حقول الذاكرة المشتركة..
إن مهرجان بوغريس، ومنذ أن كان مجرد فكرة، أو ربما لم يكن، كان يحمل في طياته هاجس اللامعنى في قلب المعنى.
اخترنا هذا الاسم، لأن الاسم، كما تعلمون، هو بداية كل شيء، وربما نهايته أيضا..
بوغريس، كما تعلمون، هو ذلك الكائن الغامض، الذي يشبه في حضوره أسئلتنا الكبرى، أو بعضها.
هذه النسخة تحاول، أو تحاول أن تحاول، أن تلامس نبض المواطن وتطلعات الذاكرة الجمعية، رغم محدودية الوسائل وصعوبة المرحلة.
أشكر الطاقم، وأشكر نفسي، لأنني صدقت الحلم، حتى حين لم يفعل أحد".

كلمة العمدة..
جاء دور العمدة، فألقى كلمة أقصر، لكنها أكثر اضطرابا:
   "السلام عليكم ورحمة الله،، أنا سعيد جدا، بل فخور، أن أكون بينكم في هذا الحدث الأكبر، الذي يجمع بين الإبداع، والتقاليد، والعصرنة في آن واحد.
مهرجان بوغريس، هو مهرجان لا يشبه غيره، لأنه يتكلم عن كائن، عن رمز، عن هوية "نحاول نعيد نكتشفها".
بلديتنا، ولله الحمد، هي أرض خصبة لهذا النوع من "التفتح" الثقافي.
أيها السادة والسيدات،
هذه التظاهرات، ليست فقط للفرجة، بل أيضا للتلاقي، والتبادل، والانفتاح على الآخر، مهما كان هذا الآخر..
أحيي كل من ساهم، صغيرا كان أو كبيرا، وأقول: " إلى الأمام، وبوغريس إلى الأمام".
   الكلمات تتعثر على بعضها، والجمل تتعارك في المعنى، لكن الأداء كان حماسيا بما يكفي لاستدرار التصفيق.

كلمة الوزير..
  الكلمة المنتظرة كانت للوزير، الذي اعتلى المنصة بلغة واثقة، ونبرة محسوبة:
   "في هذا المساء الذي لا يقاس بالزمن، بل يستشعر في تجاويف المعنى، نلتقي لا لنعرف، بل لنتذكر أننا كنا دوما في حضرة السؤال.
مهرجان بوغريس ليس مجرد تظاهرة فنية، بل انعكاس لتموجات الوعي الطيفي، وتقاطعات الرمز مع اللامعنى.
نحن، في الوزارة، نؤمن بضرورة إعادة تركيب الإدراك وفق أنساق غير مألوفة،
تحرر المفهوم من عبء الدلالة، وتعيد للفراغ حقه في التعبير.
ولذلك، فإن دعمنا لبوغريس ليس دعما لفكرة، بل احتفاء بما قبل الفكرة، وبما بعد الإطار.
نحن هنا، لأن الغياب نفسه قد حضر.
فلنصفق جميعا، لا لشيء، بل لأن التصفيق في ذاته، فعل رمزي يقاوم الانطفاء".
  كلمة الوزير صيغت بعناية لتفادي أي التزام فكري.. تمجيدا للفراغ، وتقديسا للغموض، وتصفية المعنى من أي معنى.

من، أو ما، هو بوغريس؟
   سؤال قوبل بإجابات ضبابية، مراوغة:
" بوغريس ليس من، بل ماذا، أو ربما سؤال أكثر من كونه إجابة.
هو رمز متحول، لا يمكن الإمساك به، لأنه يتغير مع كل قراءة".
قيل أيضا إنه حالة، أو فكرة غير مكتملة، أو صرخة رمزية.
لكن التفسير السائد بقي: لا يجب أن يفهم، بل أن يصفق له..

قبل الختام..
   لم يكن مهرجان بوغريس حدثا ثقافيا بالمعنى المعروف، بل فعالية شكلية، غايتها إثبات الحضور، لا تقديم مضمون.
المحتوى كان هامشيا، والتصفيق هو المحور.
الصور تلتقط أكثر مما تطرح الأسئلة، والأضواء تنير الوجوه لا الأفكار.
بعد نهاية المهرجان، بقي خلفه ما تبقى من كل مهرجان مثله:
أرشيف صور مبالغ فيه..
كلمات فارغة مشغولة بالرمز..
تصفيق جماعي بلا اقتناع
طويت اليافطة، وانتهى الحدث، وبقيت الفكرة الوحيدة التي يمكن الوثوق بها أن مهرجان بوغريس، مهما كان، لن يكون الأخير..