
ترددت كثيرا قبل الكتابة عن "معرض نواكشوط الدولي الأول للكتاب"، ليس لأن كلمة "الدولي" تجذبني ببريقها، بل لأنها أجبرتني على مواجهة سؤال أعمق: هل أصبح الطابع الدولي عندنا مرادفا لغياب المحلي؟، وهل باتت لافتة "العالمية" ترفع كلما أردنا التغطية على خواء وفراغ الداخل؟.
الثقافة الحقيقية لا تصنع بالشعارات المعلبة، أو الصور الرسمية، بل بالجهود اليومية للفاعلين المحليين: المؤلفين والباحثين الذين يسهرون على الكتابة والتحقيق، المترجمين الذين يربطون ثقافتنا بالعالم، الناشرين والموزعين الذين يبنون منظومة الكتاب على أرض الواقع، والمكتبات والجمعيات الثقافية التي تنشر المعرفة وتربط المؤلف بالقارئ. هؤلاء هم القلب النابض لأي مشروع ثقافي، وأنشطتهم اليومية هي التي تصنع الوعي، وتؤسس لبنية معرفية حقيقية لا يملكها أي شعار دولي لامع.
في 10 أغسطس 2025، أعلن وزير الثقافة والفنون والاتصال والعلاقات مع البرلمان؛ عن تنظيم النسخة الأولى من معرض انواكشوط، الذي سيقام ما بين 20 و26 أكتوبر الجاري، وبمشاركة أكثر من سبعين دار نشر عربية وإفريقية وعالمية.
الإعلان اعتبره بعض المهتمين بالشأن الثقافي "منصة لتعزيز مكانة الكتاب الموريتاني وتوسيع الحراك الثقافي"، بينما رأى آخرون -ربما من باب استصحاب الأصل- أنه مجرد حلقة جديدة من سلسلة مهرجانات "التجميل" الثقافي، متسائلين: هل هو بالفعل معرض للكتاب، أم "مهرجان ثقافي".
بعض المهتمين بالشأن الثقافي أبدى تخوفه من أن يركز المعرض على الشعارات، والمنصات المزخرفة، وحضور الشخصيات الرسمية.. على حساب المؤلف المحلي والناشر الموريتاني والبنى التحتية للنشر والتوزيع، معتبرا أن كلمة "الدولي" البراقة تخفي وراءها هشاشة جذور.
ولعل من المفارقات أن معظم الكتب التي ستعرضها دور النشر الأجنبية موجودة أصلا في المكتبات المحلية بأسعار أقل، ما يعني أن المعرض لن يضيف جديدا سوى رفع الأسعار بحجة النقل والإقامة.
أما الناشر الموريتاني، فهو الغائب الأكبر، والمتضرر في الوقت نفسه، إذ لا يدخل استدعاؤه ضمن أولويات واهتمامات الوزارة، وإذا شارك، فمعظم الزوار يفضلون الإهداء على الشراء، بينما يحضر الضيوف الأجانب للتسويق لا للتسوق، وهذا ما قد يسبب عزوف بعض الناشرين الموريتانيين عن المشاركة، ما لم تكن هناك تطمينات بشراء بعض الإصدارات، كما حدث في المعرض الوطني للكتاب عام 2004، حين نظمت الدولة إبان حكم الرئيس معاوية معرضا وطنيا للكتاب، شكّل أكبر عملية دعم حقيقية من خلال شراء كامل الكتب المعروضة.
ثم يأتي السؤال الأهم: ما دور الاتحاد الموريتاني للنشر والتوزيع؟، وهل سيُعترف به شريكا استراتيجيا، ويدرج ضمن الاتحادات التي تحظى بمخصصات مالية سنوية من ميزانية الدولة؟، وهل سيشارك بالكامل كهيئة مختصة لا يمكن الاستغناء عنها لإنجاح أي مشروع ثقافي؛ خصوصًا إذا تعلق الأمر بسياسة الكتاب من البحث والتأليف والتحقيق والترجمة إلى النشر والتوزيع؟. مجرد الحديث عن المعرض بدون توضيح موقف السلطات العليا تجاه الاتحاد يجعل الخطوة عرضا مؤقتا لا أكثر.
حسب المعطيات، أُعلن المعرض بلا دراسة جدوى، بلا تصور للأثر، وبلا خطة لما بعد الحدث.
لم تُطرح أسئلة مثل: من هو الجمهور المستهدف؟، ما حجم السوق المحلي للكتاب؟، وما جدوى المشاركة الدولية في ظل غياب صناعة نشر وطنية؟، وكأن إقامة المعرض بحد ذاتها إنجاز كاف، حتى لو لم ينتج معرفة أو أثرا مستداما.
ولكي يتحول "معرض انواكشوط للكتاب" من لافتة استهلاكية إلى مشروع ثقافي حقيقي، لا بد من إعادة بنائه من الأساس. فالمعرض لا يقاس بعدد الرفوف والصور الرسمية، بل بقدرته على إنتاج أثر معرفي دائم، أن يكون منصّة حقيقية للنقاش، وفضاء للتداول الفكري، وفرصة لدعم النشر الوطني، ولقاء حقيقيا بين الكاتب والقارئ.
المطلوب أن يُفكَّر في المعرض كرافعة للسياسة الثقافية، لا كحدث مناسباتي، ولا سبيل لذلك دون إشراك فاعلي النشر المحليين، وخلق حوافز للقراءة، وتوفير الكتاب بأسعار ممكنة، وفتح الباب لبرمجة حقيقية تدار بعقل ثقافي لا إداري.. عندها فقط، يمكن أن نرفع كلمة "معرض" من هوامش المجاملة إلى متن الجِد.
ختاما، يبقى السؤال معلقا: هل نحن فعلاً على موعد مع معرض للكتاب؟، هل نحتفل بالكتاب كرافد ثقافي أم للتصوير والاستهلاك الإعلامي؟، هل نريد صناعة فكر جاد أم مشهد مؤقت؟، وهل سيكون هذا المعرض بداية عرفان بالجميل لأولئك الناشرين الذين ظلوا يمثلون موريتانيا عالميا على حسابهم الخاص؟!.
الأيام كفيلة بالإجابة بحول الله.
ـــــــــــــــــ
(*) ناشر، وخبير معتمد في مجال النشر، وتحقيق المخطوطات.














