سرقة موقع مصر الجغرافي!- صفوت بركات

هذا عنوان من بنات أفكار جمال حمدان، وقد اقتبسته قبل خمس سنوات حين كتبت مقالا عن مشروع قناة بن جوريون التي كان يخطط لها اللاعبون الدوليون والإقليميون لربط إسرائيل خليج العقبة بالبحر المتوسط ومن ثم قتل موقع قناة السويس. 

لم ينفذ المشروع إلى الآن، وإن كانت حرب الإبادة في غزة يمكنها أن تحقق المشروع بأشكال مختلفة، في حال اكتمل المشروع الاستعماري المشؤوم بإقامة بؤرة استعمارية جديدة في القطاع بإدارة أورو-أمريكية في الظاهر. 
قبل 3 سنوات استعرت مقولة حمدان المخلصة التي تخرج عادة من عقل "جغرافي وطني" خلال مراجعتي لمشروع طريق دولي لمواصلات برية جديدة بين روسيا وإيران يحاول أيضا أن يختصر المسافات ويقتل قناة السويس.

والعام الماضي استعرت أيضا العبارة وأنا أسجل حلقة فيديو لشركة إعلام ثقافي قدمتُ فيها عرضا لمشروع طريق القطب الشمالي الجديد الذي تسعى فيه الصين وروسيا لأن تختصر المسافات وتطوق طرق التجارة التقليدية ومن بينها قناة السويس. 

وحين نصف حمدان بأنه جغرافي وطني لا نستخدم تعبيرا ديماجوجيا مبتذلا (فقد معناه في السنوات الأخيرة) بل نقصد به الجغرافي الذي ينظر في خصوصية بلاده بعد دراسة مقارنة للأمم والأوطان الأخرى. 

والحقيقة أن حمدان قبل أن يدرس بعناية جغرافية مصر ضمن مشروعه عن جغرافية الوطن ترجم نحو 10 كتب عن جغرافية الاستعمار في العالم!
لا أقصد أنك ستجد هذه الكتب متاحة على الإنترنت وعليها اسم حمدان، لأن حمدان لم ينشر هذه الترجمات، بل اقتبس منها أفضل الصفحات والفقرات وأبلغ الأفكار ووضعها في كتاب "استراتيجية الاستعمار والتحرير"

في الفصل الرابع من "الاستعمار والتحرير" يقدم حمدان عرضا سلسا أقرب إلى مقالات الجغرافيا المبسطة عن صعود وهبوط القوى الاستعمارية الأوروبية وكيف أن هولندا ورثت موقع ودور البرتغال. وحين ضعفت هولندا سقطت لتحل محلها بريطانيا. 

هنا نأتي إلى تعبير "وراثة موقع ودور مصر الجغرافي" وهو تعبير عن مرحلة أخرى - سابقة على السرقة أو موازية لها.

 يقول حمدان - وقد استخلص المعلومات من المراجع الإنجليزية - فوصل منها إلى ضالته:

"إذا قلنا إن بريطانيا ورثت موقع ودور هولندا، فقد قلنا في الحقيقة وإن يكن بطريق غير مباشر إنها ورثت موقع ودور البرتغال، وبطريق غير مباشر أكثر موقع ودور العرب القديم، وبالتحديد مصر..  نعم مصر!  فلقد أصبحت بريطانيا في عصرها التجاري الجديد في العالم بنصفيه في موقع ووظيفة أشبه ما يكون بموقع مصر ووظيفتها في العالم القديم أثناء العصور الوسطى: هي همزة الوصل بين العالم القديم والجديد بمثل ما كانت مصر همزة الوصل بين آسيا وأوربا، وهي تقع في ركن المحيط الأطلسي أو البحر المتوسط الجديد بمثل ما تقع مصر على أرض الزاوية من البحر المتوسط القديم"

كانت هذه هي خاتمة المقال الذي قدمتـُه الشهر الجاري لمجلة الهلال خلال سلسلة الحلقات التي أقرأ فيها أعمال حمدان. 

في مقال الشهر الجاري تابعت مع حمدان كيف ورثت إنجلترا موقع مصر الجغرافي بعد المراحل الست التالية: 

▪️دخلت هولندا عالم الاستعمار من أوسع أبوابه في القرن 17 حتى قيل إن هذا القرن هو بلا ريب قرن هولندا. والطريف أن هولندا قبل أن تنطلق في طموحاتها الاستعمارية كانت تحت الاحتلال الإسباني، وشجعتها الأخيرة للخروج إلى التجارة البحرية الجديدة لكسر احتكار البرتغال للتجارة.  

وقد وصُفت هولندا والأراضي المنخفضة بشكل عام بأنها بوابة الدخول في التجارة الأوروبية بحكم موقعها الجغرافي وطبيعتها التضاريسية السهلة مقارنة بالتضرس الذي تعانيه أيبيريا (إسبانيا والبرتغال). 

▪️ورثت هولندا دور المدن الإيطالية، وكانت المدن الإيطالية قد ورثت دور مصر والعرب. وحين انهارت المدن الإيطالية وتراجعت أهميتها كانت الحاجة ماسة لمداخل ساحلية لنقل سلع الشرق إلى قلب القارة، وصفت هولندا عند حمدان بأنها "نهاية الشارع الرئيسي للحركة في قلب القارة، ونعنى به الراين الذي – وحده من بين أنهار غرب القارة – يتوغل حتى قلب القارة".

ومن ثم لم تتوان هولندا عن توظيف هذا الموقع المدخلي الجديد، فنجحت أولا في انتزاع استقلالها من إسبانيا في حروب الإصلاح الديني في نهاية القرن السادس عشر، واستمر صعودها حتى بدأت تجارة الشرق تنصب انصبابا في هولندا، حتى ورثت دور البرتغال كاملا.
 
▪️توسع الهولنديون في غرب افريقيا وفي جنوب شرقها وفي جزر الهند الشرقية.  حتى كشفوا ساحل شمال أستراليا لأول مرة في بداية القرن السابع عشر وسميت هذه المنطقة من أستراليا لفترة من الزمن باسم "هولندا الجديدة". 

بل إن تازمانيا منسوبة إلى المستكشف الهولندي "تازمان" كما وصل الهولنديون إلى نيوزيلند (نسبة إلى مقاطعة زيلند في هولندا). 

في ذروة الشغف التوسعي وصل الهولنديون إلى تأسيس مستعمرات في البرازيل وجيانا، وكانوا هم الذين اكتشفوا لأول مرة رأس هورن الذي يحمل اسم إحدى القرى الهولندية (إلى الشمال من أمستردام). امتلك الهولنديين مفتاح مدخل أمريكا الشمالية في نيو أمستردام (التي ستصبح نيويورك فيما بعد). 

▪️ تسبب التنافس الاستعماري في تعريض هولندا لخطر الانهيار، إذ وقعت هولندا بين قوتين أكبر منها وأعظم: فرنسا في البر الأوروبي وبريطانيا في البحر المقابل. 

تمكنت بريطانيا في أعقاب الحروب النابليونية من انتزاع مستعمرة الكاب في جنوب أفريقيا من هولندا، بل إن هولندا نفسها سقطت لفرنسا نابليون. وكما انقضت هولندا من قبل على المستعمرات البرتغالية في الشرق الأقصى، انقضت إنجلترا على مستعمرات هولندا هناك.

في رحلته لتتبع مسيرة الاستعمار البريطاني يوجز حمدان قراءته في المراجع الأجنبية الكلاسيكية بأن الحقيقة الكبرى في تاريخ بريطانيا هي أنها "بالصدفة الجيولوجية جزيرة قارية: من القارة وليست فيها".

وكما نرى في هذا التعبير البلاغي تعميم أدبي: الشطر الأول "صدفة جيولوجية" ليس تعبيرا علميا لأن الجيولوجيا كلها قوانين وقواعد، لكن الشطر الثاني "من القارة وليست فيها" تعبير بلاغي تسمح به الجغرافيا لأن الجزر البريطانية تتصل/ تنفصل عن القارة الأوروبية.

▪️يخلص حمدان إلى أن بريطانيا هي البيئة البحرية الكاملة التي حملت قوة بشرية كبيرة أولا، وخلقت أمة ملاحة من الدرجة الأولى بعد ذلك، ومنحتها في نفس الوقت عنصر الحماية وحفظتها من اضطرابات القارة.

حتى القرن 16 كانت بريطانيا لا ثروة لها سوى الصوف الذي تصدره إلى القارة، خاصة إلى هولندا وإيطاليا. ولكن الكشوف الجغرافية حولت هذا الجزر المعزولة "المتطوحة" إلى قطب موجب في قلب المعمور المتمدد ما بين العالمين: القديم والجديد. 

ويعطينا حمدان عبارة بلاغية فيها استخلاص جغرافي سياسي وتاريخي حين يقول "إن إسبانيا والبرتغال بكشوفهما هما – بلا قصد – اللتان أعطتا بريطانيا حياة جديدة ومكانة جديدة في العالم".

وبمضي الصراع الاستعماري الأوروبي، كانت كل خسائر هولندا وفرنسا تصب في حساب بريطانيا. فكانت التجارة عبر البحار تنتقل إليها بالتدريج، حتى إذا ما حطمت فرنسا قوة هولندا نهائيا في أواخر القرن كانت بريطانيا قد ورثت بالفعل معظم دورها التجاري، وورثت لندن وبرستول أنتورب وأمستردام.

▪️وبناء على كل ما تقدم: ورثت بريطانيا موقع مصر !