
في الثامن من أكتوبر 2025، قدّم رئيس محكمة الحسابات السيد حميد ولد أحمد طالب إلى رئيس الدولة التقرير العام السنوي لعامي 2022-2023. هذا الإجراء الذي يبدو بروتوكولياً يخفي في طياته جرس إنذار حادّاً لحوكمة الدولة، إذ يكشف التقرير عن جهاز إداري أصبحت فيه الفساد، وعدم الكفاءة، والإفلات من العقاب مكوّنات بنيوية تهدد مبدأ المساءلة ذاته.
يفكك كل فصل من فصول التقرير ممارسات غير قانونية ممنهجة، من النفقات غير الشفافة إلى العقود العمومية المنحازة، ويعرض إدارةً عاجزة عن ضبط مواردها وموظفيها.
هذا التقرير، الذي يتميز بدقة غير مسبوقة، لا يقتصر على تسجيل مخالفات محاسبية، بل يسلط الضوء على عجز موريتانيا عن احترام معايير الحوكمة الرشيدة الدولية كما حددتها أجندة 2030.
فالهدفان 16 و17 من أهداف التنمية المستدامة، اللذان يدعوان إلى بناء مؤسسات فعّالة ومسؤولة وشفافة، وتعزيز الشراكات من أجل التنمية، يظهران هنا بشكلٍ معكوس: بدلاً من تحقيقهما، يتم التحايل عليهما أو تجاهلهما، ما يقوّض الشرعية الأخلاقية والمؤسسية للدولة ويهزّ ثقة المواطنين والشركاء الدوليين.
إنه ليس مجرد حصيلة مالية، بل لائحة اتهام صارخة ضد الانحراف الأخلاقي والمؤسسي الذي يهدد أسس الدولة الموريتانية ذاتها.
أولاً: مرآة مرفوعة في وجه الجمهورية
في جمهورية تُسند المادة 68 من الدستور إلى محكمة الحسابات مهمة السهر على حسن تسيير المال العام، يأتي التقرير العام السنوي 2022-2023 كوثيقة إنذار وطني.
وتحت رئاسة السيد حميد ولد أحمد طالب، تمارس المحكمة دورها كما نصت عليه القانون التنظيمي رقم 2018-032 الصادر في 20 يوليو 2018: الحكم في الحسابات، وتقييم التسيير، وتقديم المشورة للدولة.
لكن هذا التقرير يتجاوز الجانب التقني للمساءلة، إذ يكشف أزمة أخلاقية في الحوكمة: إدارة تنفق وتوظف وتبرم عقوداً وتعبئ تمويلات خارجية، في كثير من الأحيان خارج الإطار القانوني، من دون اكتراث بمبدأ المسؤولية أو تتبّع النفقات.
تنعكس موريتانيا هنا في مرآتها الإدارية العارية: دولة تكدّست فيها نصوص الشفافية من دون أن تصبح ثقافة.
ثانياً: أرقام الفوضى المنظّمة
في عام 2022، بلغت الإيرادات المحققة 88.5 مليار أوقية جديدة (بنسبة 91.4% من التوقعات)، بينما بلغت النفقات المنفذة 100.7 مليار أوقية جديدة (بنسبة 87.3%).
يبدو العجز العام البالغ 12.27 مليار أوقية جديدة تحت السيطرة، لكن المحكمة تكشف تحايلاً هيكلياً على الشفافية الميزانياتية: نحو 10 مليارات أوقية من النفقات الممولة من المانحين الخارجيين، و5.8 مليارات من الإيرادات المقابلة، لم تُدرج في الحساب العام للإدارة المالية (CGAF).
هذا الإغفال يمثل خرقاً لمبدأي الوحدة والشمول في الميزانية، وهما حجر الزاوية في الإدارة المالية الحديثة.
كما تسجّل المحكمة وجود حسابات موازية، ونفقات غير مبررة، وإيرادات غير محصّلة، ما يكشف عن دولة تعاني انفصاماً مالياً: صارمة في النصوص، وغامضة في التطبيق.
ويُضاف إلى ذلك التقليل المزمن من تقدير الإيرادات غير الضريبية، خاصة من قطاعي التعدين والصيد، ما يغذي نظاماً من الغموض المالي الذي يخدم المنتفعين ويضعف هامش الدولة المالي.
ثالثاً: الوزارات… بؤر اللاشرعية والفساد المؤسسي
يخصّص التقرير أكثر من 240 صفحة لتفتيش الوزارات، ويخرج بخلاصة صارخة:
68% من الهيئات التي شملها التدقيق تعاني مخالفات جسيمة في التسيير.
لم يعد الفساد هامشياً، بل أصبح ممنهجاً.
وزارة البترول والمعادن والطاقة: أكثر من 1.2 مليار أوقية جديدة من النفقات غير المبررة، وديون شركات تعدين أجنبية غير محصّلة بقيمة 2.7 مليار أوقية، وعقود تنقيب أبرمت من دون مناقصة، في خرق للمرسوم رقم 2021-128 المتعلق بالصفقات العمومية.
وزارة الصحة: نفقات تتجاوز 800 مليون أوقية جديدة من دون وثائق تبريرية، ومشتريات مباشرة لبرنامج PROPEP تفوق 300 مليون أوقية، إضافة إلى فوارق مادية بنسبة 25% في المخزون الدوائي.
وزارة التشغيل والتكوين المهني: فتح حساب غير قانوني في الخزينة رقم 430301047 لبرنامج مهنتي خارج الإطار التنظيمي (مخالفة للمادة 178 من المرسوم 186-2019)، وتحويلات غير مرخصة بلغت 121 مليون أوقية جديدة.
تُظهر هذه الحالات غياب التتبع وضعف الشفافية واستمرار ثقافة الإفلات من العقاب، في تناقض صارخ مع أهداف التنمية المستدامة 16 و17 التي تدعو إلى مؤسسات فعّالة ومسؤولة وشراكات شفافة للتنمية.
رابعاً: الشركات العمومية… هوّة الريع والاختلال
تكشف المحكمة أن 21 من أصل 27 شركة عمومية تعاني خسائر مزمنة، و14 منها لا تمسك حسابات نظامية.
شركة سوملك (SOMELEC) تسجل خسائر تراكمية بقيمة 1.8 مليار أوقية جديدة.
الصندوق الوطني للتأمين الصحي (CNAM) يعاني عجزاً محاسبياً بـ 630 مليون أوقية جديدة.
الخطوط الجوية الموريتانية تراكم ديوناً ضريبية تفوق 1.2 مليار أوقية جديدة.
صندوق كوفيد-19 حوّل بشكل غير قانوني قرابة 300 مليون أوقية جديدة إلى أنشطة لا علاقة لها بمهامه الأصلية.
لم تُصدر أي مؤسسة عمومية بيانات مالية معتمدة لعام 2022، ما يبرز غياب الرقابة الداخلية والتتبع الوزاري الفعّال، في انتهاك مباشر لمبادئ الشفافية والمساءلة (الهدف 16) وللتنسيق المؤسسي (الهدف 17).
خامساً: الفراغ الكبير… غياب المساءلة والعقوبة
يُظهر التقرير أن فقط 7% من المخالفات الملاحظة في التقرير السابق (2020-2021) تم تصحيحها جزئياً.
لم تُرفع أي دعوى قضائية في 24 حالة تسيير فعلي اكتشفتها المحكمة.
البرلمان، رغم أنه الجهة القانونية المستلمة للتقرير (المادة 67 من القانون التنظيمي)، لم يعقد أي جلسة نقاش أو لجنة تحقيق مالية منذ عام 2019.
هكذا تتحول الشفافية إلى طقس شكلي بلا أثر، ويغيب الرقابة البرلمانية، بينما تسود المحسوبية والإفلات من المساءلة.
سادساً: من أجل إعادة تأسيس الرقابة العمومية
قرعت محكمة الحسابات جرس الخطر. والسؤال: هل ستستجيب الدولة؟
يقترح التقرير ثلاث إصلاحات ضرورية:
تعزيز الصلاحيات الزجرية للمحكمة بتمكينها من إحالة المخالفات الجسيمة مباشرة إلى القضاء.
إلزام البرلمان بمتابعة تنفيذ التوصيات ونشر تقرير سنوي حول مدى تطبيقها.
إرساء إلزامية التدقيق الخارجي المستقل للحسابات العمومية ابتداءً من 2026.
لكن التقنية وحدها لا تكفي، فالمطلوب ثورة أخلاقية تُعيد إلى الإدارة روح النزاهة المالية وتجعل تبديد المال العام جريمة لا عادة.
صرخة مؤسسية
تقرير محكمة الحسابات 2022-2023 ليس مجرد وثيقة مالية، بل اتهام صريح لنظام إداري غارق في الفساد واللامسؤولية.
الوزارات والمؤسسات العمومية المدقَّقة راكمت مليارات من الخسائر والتلاعبات، ما يكشف عن دولة عاجزة عن مراقبة موظفيها ومنحرفة عن مهمتها الأساسية: خدمة الصالح العام.
كل رقم، وكل مخالفة في التقرير، يفضح ثقافة إدارية مريضة تستهزئ بالشفافية وتعتبر القانون عائقاً لا ضمانة.
إنّ تراخي البرلمان، وغياب العقوبات، وصمت المؤسسات، كلها عوامل جعلت الفساد نظام حكمٍ لا مجرد خللٍ إداري.
يبقى السؤال الجوهري:
هل تملك الدولة الموريتانية الشجاعة لتواجه نفسها، وتقيس حجم الانهيار، وتتخذ إجراءات تعيد للدولة شرفها وشفافيتها ومسؤوليتها؟
أم أنها ستواصل السير في طريق الإفلات من العقاب حيث تتحول الفوضى إلى قاعدة والفساد إلى ثقافة؟
المراجع
محكمة الحسابات (موريتانيا) – التقرير العام السنوي 2022-2023، يوليو 2025.
القانون التنظيمي رقم 2018-032 المؤرخ 20 يوليو 2018، المتعلق بمحكمة الحسابات.
الدستور الموريتاني (المادة 68) بشأن مراقبة المالية العامة.
المرسوم رقم 2021-128 المؤرخ 29 يوليو 2021، المتعلق بمدونة الصفقات العمومية.
القانون رقم 2000-045 المؤرخ 26 يوليو 2000، المتعلق بقانون البيئة.
إعلان ليما (المنظمة الدولية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة INTOSAI، 1977) حول استقلالية أجهزة الرقابة العليا.
الأمم المتحدة – أجندة 2030: أهداف التنمية المستدامة (الهدف 16 والهدف 17)، 2015.














