
كلَّما تحرك رئيسٌ- عبر التاريخ السياسي الموريتاني- صوب إحدى الولايات الداخلية؛ اضطرارا أو اختيارا .. إلا وتداعت " عِلْيةُ القوم" لمكان الزيارة تَدّعِي وصلَ ليلى وتأخذ بكل سبب مهما ضعُف أو أيِّ آصرة مهما امحت، لتُدْلِي بها في الزحام في وهج الرمضاء في وجه الرئيس القادم مدةً، يسيرة و من فاته الظهورُ أمامَه فيها، فاته خيرٌ كثير ويُخشى عليه من دوام الاختفاء لسبب أو آخر.
في مشاهد هذه الزيارات يزدحم وافدانِ قّلّما أقلتهما غبراء الولاية المزورة أو أظَلَّتهما سماؤُها: هما السياسي الشهير بإحدى فَتَكاتِه؛ الذي هو غالبا منتخَب مذموم بين منتخبيه بإخفاقاته، والموظف "الإداري" أواللا إداري بمقتضى إجراء خصوصي لا إرادي حسب الفهم السليم لمعايير الإسناد؛ الراجي غسل أدرانه التسييرية بمصافحة أو تلويح أو إيماء أو خائنة الأعين وماتخفي الصدور.
وَكِلَا الصنفين يبذل وسعه في لقاء الوفد السامي ومصافحة الرئيس، يُحدّث الرئيسَ أحاديث بهرجة عن حياة الناس وعن تعلقهم اللامشروط بشخصه ومنهاجه في التدبير والتدوير!.. لكنها أحاديث مدلسة ومنقطعة وأقربها للصواب به جهالةٌ أو تَفَرٌّدٌ لا شواهد له؛ والهدف من هذه المزاحمة هو إظهار القوة السياسية والمغالطة بشأن المواطنين ومآلهم ومضايقة" الوجهاء" المحليين المغلوبين على أمرهم؛ والذين لا يملكون إلا الانتظام في سلك الزحام و إلا الرضا بما تيسّر من امتياز أو تخصيص بمزيّة على حساب جماعاتهم، عبثًا بمصالح المواطنين وما يؤمِّلونه من الدولة من خدمات جوهرية بها قوامُ حياتهم.
فيَنْتَفِي بذلك مفهومُ المواطنة ليحلّ محلَّهُ الحلفُ السياسيُّ المناطقي.
ثم إن من نتائج التعاطي شبه الرسمي مع هذه الأحلاف إهمالُ الآلية المكرَّسة دستوريا للمشاركة السياسية وينسف مزايا إعمالَ المواطن لحقوقه السياسية بعيدا عن تعلقه الشخصي بوجِيهٍ مُغَفّل غَمْرٍ يَتَفَيْقَهُ بما لا يعلم ولا يُحسِن فيه الخطاب ولا الرد أو تزلُّفِه لمنتَخَبٍ قادم على أكتاف قبيلة أو تحالف مصلحي هي رأسُ مالِه التمثيلي والسياسي لا صلة له بحزب سياسي مؤسسي أو بالانخراط في خيار أيديولوجي أكسبه دُرْبَةً أو جنّبَه رعونة، للتأهيل لصون وتجويد مصالح ناخبيه.
لعل الصورة الواقعية للممارسة السياسية في المساندة والتمجيد مازالت مُحدِّدا قويا لتأكيد البَوْن الكبير بين ما نُقِرُّه من أدبيات دستورية ونظامية وتنظيمية وبين ما نعيشه من تعلق خارق راسخ بالبُنّى التقليدية القبلية والجهوية في انتمائنا السياسي وهُويتنا وفي سعينا لنيل المصالح.
ولولا تزكية رعاة الشأن العام لهذا الواقع إفصاحا أو تقريرا علنا وفي السر، لَمَا ضربْنا المعيارية( في التوظيف والتعيين ونيل الصفقات العمومية بالتراضي والترشيح والتوشيح والاستشفاء خارجيا وداخليا والتعزية....) في مقتل لحساب قنواتٍ وسُبُلٍ ضيقةٍ ومتعرّجة حتى لم تعد النخبة تنكر ظلما أو تستحي من الضلالة في شعابها.
فقِيَّمُ الكفاءة والنزاهة والقوة في الحق... تختطفها في كل فرصة أيدي الأحلاف السياسية والجهوية لتُحِلّ محلَّها شعاراتُ الدعم والمساندة، أو الطاعة العمياء و روابط الانتماء الضيق بالقبيلة أو الجهة أو " المعرفة".














