
في مشهد يلخّص التحولات العميقة التي يشهدها الساحل الأفريقي، يواصل النفوذ الفرنسي تراجعه في المنطقة، ويبرز النيجر اليوم كأحد أوضح الأمثلة على هذا الانزياح الاستراتيجي. فمنذ عام 2023، أوقفت نيامي صادرات اليورانيوم إلى باريس، وقررت، يوم الأحد الماضي، طرح إنتاج شركة «سوماير» على السوق الدولية، في خطوة تعكس انتقال البلد إلى مرحلة جديدة من الشراكات وتحالفات الطاقة.
**تراجع مستمر للنفوذ الفرنسي
توضح المؤشرات الاقتصادية حجم هذا التحول: ففي الوقت الذي سجّلت فيه أفريقيا جنوب الصحراء نمواً يناهز 4 % عام 2024، تراجع حجم التبادلات التجارية بين فرنسا والقارة بنسبة 0,4 %، وفق وزارة الاقتصاد الفرنسية. هذا الانكماش ليس مجرد رقم، بل إشارة إلى تفكّك تدريجي للإرث الاستعماري الذي ظلّ يمدّ باريس بالثروات ويؤمّن لها نفوذاً سياسياً واقتصادياً لعقود.
وبالنسبة للنيجر، كان القرار بوقف تصدير اليورانيوم إلى فرنسا منذ انقلابات 2023 بمثابة إعلان صريح عن نهاية مرحلة «فرانسافريك» التقليدية.
**يورانيوم النيجر… محور طاقة حيوي لفرنسا
تعتمد فرنسا، التي تولّد الجزء الأكبر من كهربائها من الطاقة النووية، على مصادر خارجية لتأمين اليورانيوم الضروري لمفاعلاتها. ويُعدّ النيجر واحداً من أهم المزودين التقليديين، حيث كانت صادراته تغطي ما بين 10 و15 % من احتياجاتها قبل وصول المجلس العسكري إلى السلطة.
وتضم البلاد عدة حقول غنية، أبرزها موقع «إيمورارين» الذي تُقدَّر احتياطاته بنحو 200 ألف طن. غير أنّ هذا المورد الاستراتيجي لم يعد في متناول باريس كما كان في السابق.
**نيامي تستعيد السيطرة
منذ استيلاء الجيش على الحكم، اتجهت السلطات الجديدة إلى تعزيز خطاب السيادة الوطنية، ووضع قطاع التعدين في قلب هذا التحول. وكانت الخطوة الأبرز هي تأميم شركة سوماير في يونيو، وهي الشركة التابعة لمجموعة «أورانو» الفرنسية، حيث باتت الدولة تملك السيطرة الكاملة عليها.
ورغم محاولات باريس اللجوء للمحاكم الدولية لإلغاء القرارات، فإن نفوذها في القطاع تراجع بشكل حاد، ما دفعها إلى استيراد الجزء الأكبر من احتياجاتها من كازاخستان وأستراليا.
ولم تخلُ الأزمة من توتر سياسي، إذ اتهم رئيس الوزراء النيجري علي محمد الأمين زين، في خطاب أمام الأمم المتحدة، فرنسا بأنها سعت إلى تجميد نشاطهم عبر «ملاحقات قضائية لا تنتهي»، مذكّراً بأن خمسة عقود من الاستغلال لم تجلب لشعبه سوى «الفقر والتلوث والتمرد والفساد».
**اتهامات روسية في الأفق
رغم غياب الشفافية الكاملة، أثارت قافلة غامضة من نحو ألف طن من «الكعكة الصفراء» (يورانيوم مركز غير مخصب) جدلاً واسعاً في نوفمبر 2025، بعدما تردد أنها عبرت مناطق تحت سيطرة جماعات جهادية. كثير من الخبراء رجّحوا أن تكون العملية مدعومة من موسكو، بينما أكدت باريس أنها مقتنعة بأن شركة «روساتوم» الروسية حصلت على الصفقة بقيمة 147 مليون يورو.
هذا التطور يتقاطع مع تعزيز العلاقات بين نيامي وموسكو، خصوصاً بعد زيارة وزير الطاقة الروسي سيرغي تسيفيليوف للعاصمة في يوليو، حيث أعلن بوضوح عن رغبة بلاده في «إنشاء منظومة كاملة لاستخراج ومعالجة اليورانيوم» في النيجر.
**إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للطاقة
ان تحركات النيجر الأخيرة ليست حدثاً معزولاً، بل جزء من دينامية أوسع تشهدها المنطقة، حيث تتراجع القوة الفرنسية بينما تصعد روسيا كلاعب اقتصادي وأمني. ويشكّل اليورانيوم، الذي كان لعقود أداة نفوذ فرنسي في غرب أفريقيا، محوراً رئيسياً لهذا التحول.
يعكس طرح الإنتاج في السوق العالمية وفتح الباب أمام شركاء جدد، رغبة نيامي في التخلص من العلاقة الأحادية مع باريس، والتحوّل إلى فاعل مستقل يسعى لتحقيق أقصى استفادة من ثرواته المعدنية.
**نهاية مرحلة وبداية أخرى
بوقف صادرات اليورانيوم إلى فرنسا، وتأميم شركة سوماير، وتنامي التعاون مع روسيا، يغلق النيجر فصلاً كاملاً من علاقته مع باريس ويفتح آخر أكثر تعقيداً وانفتاحاً. إنه تحول لن يقتصر تأثيره على البلد وحده، بل سيمتد إلى خريطة الطاقة العالمية، وإلى مستقبل النفوذ الدولي في منطقة الساحل.
رابط المقال :
https://www.20minutes.fr/monde/niger/4189027-20251201-niger-fin-ere-fran...














