
روى عشرات المدنيين الذين فرّوا من مناطق القتال في مالي لوكالة الأسوشيتد برس أن وحدة عسكرية روسية جديدة حلتّ محل مجموعة فاغنر تُنفّذ سلسلة من الانتهاكات الوحشية، من بينها الاغتصاب وقطع الرؤوس، بينما تعمل إلى جانب الجيش المالي لملاحقة الجماعات المتطرفة. وأكد هؤلاء أن “فيلق إفريقيا” يعتمد الأساليب نفسها التي اتّبعتها فاغنر، في شهادات لم تُنشر من قبل في وسائل الإعلام الدولية.
وقد عرض لاجئان مقطعَي فيديو لقرى أُحرقت بالكامل على يد “الرجال البيض”، كما قال آخران إنهم وجدوا جثث ذويهم وقد نُزعت منها أعضاء داخلية مثل الكبد والكليتين، وهو نمط من الانتهاكات سبق أن وثّقته الأسوشيتد برس عندما كانت فاغنر تنشط في البلاد.
ومع تصاعد روايات الفارين، وصف أحد شيوخ القرى الوضع بأنه “سياسة الأرض المحروقة”، مشيرًا إلى أن الجنود لا يتحدثون إلى أحد، ويطلقون النار على كل من يصادفونه بلا أسئلة ولا تحذير، حتى بات الناس لا يعرفون سبب استهدافهم أصلًا.
نزوح جماعي نحو موريتانيا
في الوقت نفسه، تستمر موجات النزوح نحو الحدود الموريتانية، حيث التقى مراسلو الوكالة 34 لاجئًا نقلوا شهادات متشابهة عن عمليات قتل عشوائي وخطف وانتهاكات جنسية. ولأن كثيرين يخشون الانتقام، فقد تحدّث معظمهم بشرط عدم الكشف عن هوياتهم. ومع ذلك، اتفقوا جميعًا على وصف واحد: “لا فرق بين فاغنر وفيلق إفريقيا… الأشخاص أنفسهم، والطرق نفسها، بل أسوأ.”
ورغم أن السلطات المالية لم تعترف يومًا بوجود فاغنر أو فيلق إفريقيا، فإن وسائل الإعلام الروسية الرسمية بدأت مؤخرًا الترويج لهذه الوحدة، واصفةً عناصرها بأنهم “يدافعون عن مالي ضد الإرهابيين”. كما أكدت وزارة الخارجية الروسية أن نشاط الفيلق يأتي “بناءً على طلب السلطات المالية”، وأنه يتولى مهام ميدانية تشمل مرافقة قوات على الأرض وعمليات بحث وإنقاذ وغيرها. لكن وزارة الدفاع الروسية لم تردّ على استفسارات الوكالة.
***معادلة قاتلة
وسط هذا المشهد الضبابي، يجد المدنيون أنفسهم محاصرين بين نيران الجماعات المتطرفة المرتبطة بالقاعدة أو تنظيم الدولة من جهة، والقوات المالية المتحالفة مع الروس من جهة أخرى. ويقول خبراء إن من الصعب تحديد عدد الضحايا الحقيقي، خصوصًا مع تزايد القيود على دخول الصحفيين والعاملين الإنسانيين إلى المناطق النائية. وقد وصف ممثل مفوضية اللاجئين في موريتانيا الوضع بأنه “لا شك أن هناك عمليات اغتصاب وهجمات وقتل… لكن من الصعب معرفة الجهة المسؤولة بدقة”.
وفي هذا السياق المعقد، تتزايد الضغوط على سكان القرى. فمن لا يتقيّد بأوامر الإخلاء التي تصدرها الجماعات المتطرفة يواجه الانتقام، ومن يفرّ يُنظر إليه على أنه متعاون معها فيُستهدف من قبل الجيش المالي وفيلق إفريقيا. وهكذا يجد المدنيون أنفسهم أمام معادلة قاتلة: “إن لم تخبر الجيش بأنك رأيت مسلحين سيقتلونك… وإن فعلت، سيأتي المسلحون ويقتلونك.”
وتفاقمت الانتهاكات منذ عام 2021 حين دخلت فاغنر إلى مالي، ويُعتقد أن الحكومة المالية كانت تدفع نحو 10 ملايين دولار شهريًا مقابل خدماتها. وبعد مقتل يفغيني بريغوجين عام 2023، بدأت موسكو إنشاء “فيلق إفريقيا” بديلاً عنها، لكن اللاجئين يؤكدون أن التغيير كان شكليًا، وأن كل شيء بقي كما هو: نفس الممارسات ونفس الزي ونفس الآليات.
ومع ذلك، لا يقتصر الفيلق على الروس وحدهم، كما قال بعض الفارين الذين أكدوا رؤيتهم لمقاتلين سود يتحدثون لغات أجنبية. وتشير تقارير إلى أن الفيلق يضم مجندين من روسيا وبيلاروس ودول إفريقية عدة، وأنه كثّف هجماته شمال مالي وهي منطقة غنية بالذهب.
رغم انخفاض عدد الوفيات الموثّقة التي يُتهم الروس بالمسؤولية عنها هذا العام مقارنة بالعام الماضي، يقول الخبراء إن الأرقام لا تعكس الواقع كاملًا، لأن الناس باتوا خائفين من الإبلاغ. كما أن خروج بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام من مالي عام 2023، وانسحاب البلاد هذا العام من المحكمة الجنائية الدولية، زاد من صعوبة تتبّع الانتهاكات. وقد أكد خبير أممي أنه طلب مرتين زيارة البلاد ووجّه استبيانًا للسلطات العسكرية، لكنها لم ترد، معتبرًا أن التحقيقات “تُضعف معنويات القوات”.
***المشهد لم يتغير
مع إعلان فاغنر رحيلها، حاول بعض اللاجئين العودة إلى قراهم، لكنهم اكتشفوا أن المشهد لم يتغير. يقول أحدهم: “لم يتبدل شيء… الاسم فقط تغيّر، أما الأساليب فازدادت سوءًا.” وروى أنه أحصى أكثر من مئتي رجل قُتلوا أو خُطفوا في بلدته قبل أن يفرّ.
ويصف آخرون حالة الرعب التي يعيشونها، إذ يفزعون عند أي صوت محرك، ويهربون أو يتسلقون الأشجار، فيما قالت امرأة إنها كانت تهرب على عجل لدرجة أنها تركت طفلها الرضيع خلفها دون أن تتذكره إلا بعد ساعات.
ويرى خبراء قانونيون أن الانتقال من فاغنر إلى فيلق إفريقيا يجعل الحكومة الروسية مسؤولة مباشرة عن الأفعال المرتكبة، لأن الفيلق بات رسميًا جزءًا من وزارة الدفاع الروسية، ما يعني أن أي جرائم حرب تُنسب إليه يمكن قانونيًا إسنادها إلى الدولة الروسية.
وفي إحدى أكثر الشهادات ألمًا، قالت امرأة تُدعى فاطمة إن هجومًا وقع على قريتها مؤخرًا اضطر الجميع للهرب، لكن ابنتها أُصيبت بنوبة وسقطت، فبقيت معها بينما اقتحم المسلحون المنازل ينهبون ويقتلون. وعندما دخلوا بيتها، اعتقدوا أن الفتاة متوفاة، فتركوها. ولم ترغب فاطمة في الحديث عما فعله الرجال بها، قائلة: “هذا الأمر بيني وبين الله.”
وبعد أن وجدت ابنها مقتولًا وشقيقها مصابًا، مضت في رحلة الهروب نحو موريتانيا، لكن ابنتها التي كانت تعاني من نوبات متكررة توفيت أثناء الطريق.
وتقول فاطمة إن حياتها فقدت معناها: “كنت قوية قبل اندلاع النزاع… أما الآن فأنا مجرد ظلّ لإنسانة كانت تعيش حقًا.”
وفي موريتانيا، تلاحقها الذكريات وتشعر بصعوبة في التنفس والنوم، ولا تجد إلا صورة ابنتها لتتأملها طوال الوقت. وتقول في نهاية حديثها: “أبدو كأنني أعيش… لكنني لست كذلك".
رابط المقال :
https://apnews.com/article/mali-russia-africa-corps-mauritania-refugees-...














