الصفقات العمومية في موريتانيا: بين شجع التربُّح وشبهة الفساد!- موقع الفكر

تحظى الصفقات العمومية بمكانة بارزة ضمن وسائل الإنماء وآليات تنفيذ المشاريع العامة، فعن طريق إبرام الدولة وهيئاتها لعقود الأشغال العامة مع المقاولات الخاصة يتمُّ تشييد البنى التحتية والمنشآت الخدمية والعمرانية مما لا غنى عنه في تطور مسار التنمية.

وقد أحْكَمَتْ الجهاتُ المسؤولة بموريتانيا عبر عقود من الزمن تنظيمَ الصفقات القانونية فاعتمدت " نظاما نموذجيا" – على المستوى النظري وفحوى النصوص- لضبط الصفقات العمومية وتكريس المنافسة في عملية اختيار المقاولات.

كما تعهدت الجانبَ الهيكلي ففصَلَتْ لجنةَ الرقابة عن اللجنة المخولة للإشرف، ثم اعتمدت لجانا قطاعية فرعية بحسب التصنيف الوزاري.

غير أنّ الواقع شيء آخَرُ، فما فتِئَتْ الطلبياتُ العمومية- بما فيها التوريدات البسيطة- في موريتانيا مَثارَ نقاش ومحلَّ شبهةِ فسادٍ، إنْ لم نَقُل إنها هي مَكْمَنُهُ، وما سلم منها من ذلك يأخذ حكمَ الاستثناء ويتّصِفُ بالنُّدور، في رأي الجميع: السياسي والإداري، والموالي والمعارض، والحصيف والغَمْر ...، فما السر وراء ذلك؟ وما اللغز في استمرار هذ الوضع؟ رغم وفرة هيئات الرقابة وآليات مناهضة الفساد، أيُّ مفارقة هذه؟

من العَجَب العُجاب أنّ الغالب الأعم من المقاولات " الوطنية" لا تراها أو تسمع عنها إلا عند التقدم لهذه الطلبيات وخرقها للمنافسة بحسب موقعها "الثقيل"، ولا تسعى إلا لأقصى هامش ربحي إما باستنفاد طرق التحايل والتنافس الصوري لتنفيذ الصفقة بأقل غلاف مالي والبحث كلّما لاحت الفرصة عن تعويض الصعوبات غير المتوقعة المُفتَعَلة، وإما بإطلاق اليد في التنفيذ عند الحصول على الصفقة بالتراضي لغير سبب؛ مما يتّفق عليه اثنان في الخفاء، لا نعلمُ عنه شيئا يُلجُ الصدر في اتجاه تقديم مصلحة البلد والمواطن.

لقد أضحت الصفقات العمومية عندنا من أسرع و أقصر الطرق غير المستقيمة للثراء الفاحش، وتكاثرت المؤسسات المقاوِلة تكاثرَ الظباء على خِداشٍ، وتعددت حتى بالنسبة للشخص الواحد، فهو يشارك بعدة عناوين مسمًّى على اسم واحد! لا يُجْمِل في الطلب.

والمؤسفُ حقًّا تراجعُ حضور الأجيال الأولى من المقاولين الذين هم في أغلبهم يرعون الإِلَّ  والذمة وأدناهم منزلةً: به بقية أخلاق..، في مقابل الطفرة الحالية في تدخلات الدولة التنموية وما يحوم حولها من مقاولين لم يعيشوا  ما عاش رعيلُ البُناة، ولا عانَوْا كثيرا في تأهيل وبناء مقومات المقاولة الجادة القابضة على المصلحة الوطنية بيد من حديد.

ولعل السبب الوجيه لِما آلت إليه منظومة الصفقات العمومية لا يتعدّى مساوئ وآثار استغلال المال العام في صناعة الشرعية السياسية، وفي الترضية المجتمعية، وفي ضبط التوازنات في أجنحة النظام وحسم الانتخاب والولاء، فمنحُ الصفقة هو الجزرة المفضّلة للإسكات وللانصياع.

ألا يعلم كلُّ ساع لإسناد صفقة- بهذا المنطق- لغير مُؤَهّلٍ ولا مستحِقٍّ لها بالمعايير الإدارية والمالية والفنيّة، أنّه ساهم في إهدار المال العام وفي نسف وضياع الخدمة العمومية ليس فقط عن طريق أرباح الصفقة، وإنما عن طريق تشجيع رداءة التشييد وضعف الأداء وتكدّس أشباه المنشآت التي لم تَتْبَعْ مواصفاتِ دفتر الشروط.

لا يمكن أن نراهن على الخروج من هذا الواقع المُدمّر لمقدرات المالية للدولة، والمعمّق للتفاوت في تكافئ الفرص إلا عن طريق رقابة خارجة عن دائرة " النظام" المكتنف لتنظيم ومتابعة الصفقات العمومية، من خلال هيئات المجتمع المدني كقوّة اقتراحية وكطرف قادر على تغيير الوقائع ورفعها لمحكّ العلاج، ولتقديمها أمام الرأي العام وهتكِ أستار ملابستها، ثم إن دور المؤسسة القضائية سيكون مصيريا للأخذ على يد أهل الغلول، حتى يرتدع كل من سوّلت له نفسه العبث بمال الشعب وبعُمران دولة جارَ عليها الأَهْلُون.