تطورات ودروس وآفاق/ الرئيس محمد جميل منصور

كنت قبل فترة وعلى إثر التطورات في تونس قد ذكرت أنني قد أكتب مقالا عن موضوع الواقعية والتكيف مسارا وحدودا ومحاذير، وجاءت التطورات في أفعانستان دافعا إضافيا لوقفة مراجعة وتقويم تجيب على إشكالات المسار السياسي لأغلب الحركات الإسلامية الوسطية، ولكني ترددت أو انشغلت، وجاءت اليوم نتائج الانتخابات البرلمانية في المغرب لتذكرني بل ولتدفعني لكتابة هذه الملاحظات والوقفات راجيا من الله التوفيق في القول والتحليل والحكم.
قد يعتبر البعض في هذا الحديث شيئا من الاستعجال لأننا في اليوم الثالث منذ إجراء الانتخابات المغربية، وسيتحدث البعض عن نقد في غير وقته، وربما يتصور بعض آخر أن في الأمر استباقا لنقد مبرر وله ما يسنده لمدرسة الواقعية السياسية، والحقيقة خلافا لكل هذا أن تطورات بحجم انقلاب الرئيس سعيد في تونس والوضع الذي وجدت حركة النهضة فيه نفسها، وبمستوى تسارع الأحداث في افغانستان ونجاح طالبان في إحكام السيطرة على بلد استعصى على المجاهدين والمحتلين، وبنوع وشكل الخسارة الانتخابية التي مني بها حزب العدالة والتنمية المغربي في استحقاقات سبتمبر الجاري، تفرض وقفة موضوعية تسائل تجربة الواقعية السياسية وتتساءل عن مآلات مسار بدأ البعض يشكك في منطلقاته ومنهجه، ولا يكتفي بأخطاء التقدير والتطبيق.
من البساطة المبالغ فيها القول إن التكيف السياسي ومنطق التنازل فشل ارتباكا وتراجعا وخسارة في كل من تونس والمغرب، وأن منطق المقاومة والقوة والصلابة انتصر في أفغانستان، فالمتأمل للتجارب المذكورة لن يفوته أن الانتصارات الانتخابية والنجاحات السياسية خلال عشرية كاملة من العمر السياسي لكل من حركة النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في المغرب، كانت حصادا لعمل سياسي واقعي يتنازل أصحابه ويتكيفون ويحسنون قراءة الواقع وتدافع العوامل الداخلية والخارجية فيه، بل لن يفوته أن نسبة غالبة من الترحيب توجهت لسلوك طالب....ان الجديد تفاوضا مع الأمريكان، وتواصلا مع العواصم المؤثرة في المنطقة، واعتدالا في الخطاب، وانفراجا في العلاقة مع المكونات السياسية والطائفية الأخرى، دون تجاهل أن نسبة معتبرة من المساندة لطالب......ان كانت بسبب صلابتها وشجاعتها وثباتها على مبادئها ومواقفها.
إذن الأمر يحتاج مقاربة مركبة تستبعد التفسير الأحادي للأحداث، وتتجنب اختيار الخلاصة بناء على الانتماء المدرسي الواقع أصلا.
لقد وفق الصحفي في قناة الجزيرة محمد البقالي في تشخيص السبب الرئيسي في التراجعات الملاحظة حين اعتبر أن منهج الواقعية - وهو المنهج الممكن والسليم رغم المستعجلين والشامتين - مثل الملح في الطعام يكون بقدر وحساب وأن الزيادة فيه تنازلا وخنوعا تفسده كما تفسد الطهي الزيادة في الملح.
المتابع لمسيرة الأحبة في نهضة تونس وعدالة المغرب لابد أن يتوقف عند خصوصيات وإكراهات يكفي القبول بها ابتداء مع الحذر اللازم من الانجرار وراء استحقاقاتها في التنازل والتكيف.
رفعت حركة النهضة شعارات "التوافق" و"الحوار" و"التنازل للمصلحة العامة" وأدارت علاقاتها المحلية والإقليمية والدولية بكفاءة ملحوظة ولكنها لم تستطع ترجمة وعودها لشعب ثار من أجل الكرامة والعدالة الاجتماعية في الواقع، سواء وهي تقود الحكومة أو توفر لها الحزام السياسي اللازم، من ناحية أخرى لم تعكس اختياراتها الاجتماعية ماضيها النضالي ولا هموم حاضنتها الشعبية الرئيسية، زاد ذلك سوء حجم العلاقة مع المفسدين وعناصر النظام الذي ثار عليه التونسيون، ولا يمكن تجاهل أثر الصورة التي ظهر بها بعض المسيرين النهضويين والتي إن لم تترجم فسادا فإنها لم تبدع إصلاحا.
أما حزب العدالة والتنمية المغربي والذي قدم تجربة متقدمة بالمقارنة مع الأحزاب الشبيهة في العالم العربي، فقد اجتمعت له عدة عوامل لتوصله لهذه الوضعية التي يصعب تفسيرها بادي الأمر، فمن ناحية جعل الاستمرار في قيادة الحكومة هدفا تنازل من أجله عن أمور جوهرية كان أهمها مكانة وصلاحيات ما بعد الربيع العربي في العلاقة مع الملك، ثم تفاقمت أزمته الداخلية والخلاف مع أمينه العام السابق ذي الوزن الثقيل داخل الحزب وخارجه، ثم مرر - مع آخرين طبعا- موضوع الفرنسية في التعليم، ثم كانت القشة التي آذت قطاعا واسعا من جماهيره وإخوانه بقبول التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتوقيع زعيم الحزب عليه، وكان لقانون الكيف أثره السلبي بدوره، هذا إضافة لضعف تواصلي ملحوظ، وحصيلة في التدبير تنسب أغلب إيجابياتها للملك وأكثر سلبياتها لقائد الإئتلاف الحكومي أي العدالة والتنمية.
أدرك وأنا أقوم بهذه المساءلة للأحبة في حزبي "النهضة" و "العدالة والتنمية" أن أمورا كثيرة تغيب عني، وأن مؤامرات حقيقية شاركت فيها قوى داخلية وخارجية استهدفت الحزبين، وأدرك أن نجاح التجمع الوطني للأحرار والأصالة والمعاصرة في المغرب مثلا ليس بسبب تطبيع رفضوه، أو إنجاز حققوه، أو خدمة أحسنوها ولكن ......
مازال الوقت مبكرا للحكم على تجربة طالب... ان وإن كان الوضوح والصلابة ونظافة اليد والأمل الذي يعلقه عليهم شعب تأذى وتألم وفقد الأمن والعيش الكريم، ومستوى الوعي والمرونة الذي أظهروه، كل ذلك يعمل لصالحهم، ومما يبرر بعضا من مسارهم في الماضي أنهم كانوا يقاومون احتلالا، ويقاتلون من أجل الاستقلال.
ولكن الحكومة التي أعلن عنها، وحنين بعض مكونات طالب...ان إلى خطابها السابق، والتردد في توجهات أعلنت عنها أول الأمر، لا تعمل لصالحهم، ويبقى التدافع داخل الحركة وهياكل السلطة التي أنشأتها فضلا عن حجم التأثيرات الإقليمية والدولية محددا لمآلات الأمور في بلد لم يعد كما كان يوم سيطرت عليه حركة طالب.....ان أول مرة.
إن الوضعية التي يعيشها عدد من القوى السياسية الاسلامية المتقاربة في التوجه المدرسي، والخوف وارد أن تعيشها قوى شبيهة أخرى عند وصول بلدانها لمنعرجات حساسة، تستدعي وقفة مراجعة جدية من قبل قادة ومفكري ما أصبح يعرف بالاسلام السياسي، فليس كافيا لتفسير ما حدث في مصر والسودان وتونس والمغرب بل وما عرفته الانتخابات البلدية الأخيرة في تركيا، باستهداف الخصوم والأعداء ولا حتى بأخطاء السياسة والتدبير، هناك أمور تحتاج تفكيرا ونظرا في علاقة الاسلاميين بالسياسة والمنهج والأدوات التي يمارسونها بها.
لا يخفى أن ما حدث خصوصا في الانتخابات المغربية ينبه الاسلاميين ومنافسيهم أن الأحزاب السياسية ذات المرجعية الاسلامية قابلة للصعود والانتصار كما أنها قابلة للهبوط والهزيمة، وأن خوف بعضهم من أن كل ديمقراطية ستفرز إسلاميين فقط لم يعد في محله وهو مامن شأنه أن يوقف أو يخفف الكيد للديمقراطية والحرية والشفافية في منطقتنا، أما التنبيه الأهم للتيار الاسلامي فجوهره أن الاستفادة الانتخابية من مظلومية الأمس توقفت أو كادت، والاستفادة الانتخابية من العنوان الاسلامي تراجعت، ومقتضى الدرس أن حصاد السياسة مرتبط بثلاث أنواع من القوة : القوة الاقتراحية من حيث الرؤية والبرامج والحلول المقدمة، والقوة التعبوية تنظيما وتخطيطا وتواصلا، وقوة الانجاز عند تولي أي مسؤولية بلدية أو برلمانية أو حكومية.
ليس الحل في مواجهة هذه التراجعات في تغيير المنهج سواء نحو المعارضات الحدية أو المقاربات الثورية أو التوجهات الجهادية بالمفهوم المتداول، فتلك بدورها جربت، ولا الأصول تسعفها ولا الحصافة تسمح بها، والمآلات لا تشجع ولا تطمئن.
الحل أو التوجه المفضي إلى الحل هو إعادة صياغة وتركيب لمنهج المشاركة والتدرج، وتصور محاذيره قبل الوقوع فيها والاضطرار إلى تبريرها، وإبداع مقاربة تحفظ للتيار الاسلامي أصالته وتظهر معاصرته، وجعل العلاقة مع الناس (الشعب) جوهر ما يمارس من تكيف وما يلتزم به من واقعية، والابتعاد عن الازدواجية خطابا وممارسة في فترة المعارضة وأثناء مباشرة التدبير.
ثم إن فلسطين ونصرتها، والتطبيع ورفضه: عنوانان من عناوين المبدئية والتوفيق والوصول إلى قلوب الناس، والتفريط في أي منهما مدفوع الثمن عاجلا أو آجلا.