موفد الفكر (سليبابي) بأدوات بدائية وسواعد هزيلة وكاهل مثقل بالهموم تقضي الزهرة بنت أشبيل ورفيقاتها سحابة نهار قائظ في حماية مزروعاتهن على أطراف مدينة سيلبابي من الحيوانات السائبة ومن أقدام المارة وفضول الأطفال العابثين الذين يجدون في هذه المزارع الخضراء والبرك التي تغمر أجزاء منها أفضل مكان للهو والتسلية.
إن امتلاك أمتار من السياجات يكفي لتوفير كل هذا الجهد والوقاية من مخاطر لدغات الأفاعي والدخول في مواجهات مع ملاك الأنعام كثيرا ما تسفرعن ضحايا وثارات لا تهدأ إلا لتشب من جديد.
في سكام 35 كم على طريق روصو بوكى كان المزارعون إلى وقت قريب يحتجزون الأنعام التي تسطو على مزارعهم في شمامه ولا يسلمونها لأصحابها إلا بعد دفع فدية مجزية كتعويض عن ما ألحقت بحقولهم من أضرار وفي أحيان تهلك هذه الأنعام من الجوع والعطش قبل أن يصل إليها ملاكها ودون أن تبرح "الكت " كما يطلقون عليه أومكان احتجاز الأنعام والحيوانات السائبة، كما يقول أسلم ولد عبدي وهو يستعرض شريط ذكريات مضمخ بالألم والمعاناة والصراع الدامي بين منمي المنطقة وفلاحيها.
أما اليوم فإن تدخل السلطات غالبا ما يحسم النزاع قبل أن يستفحل ويصل إلى طريق مسدود على حد تعبيره.
داخل الأراضي الزراعية في مدخل سيلبابي وعلى بعد أمتار قليلة من الزهراء ورفيقاتها تنتصب مزرعة محكمة السياج تبدو مزروعاتها الناضرة قد استوت على سوقها وتنتظر الحصاد إنها مثال للتعاون والعمل الدؤوب بين أفراد العائلة الواحدة وكذا الاستفادة من التقنيات الحديثة والاعتماد على النفس ،كما يقول النسوة المزارعات في محاولة لتسلية أنفسهن عن ما يجدن من إحباط وبؤس وإهمال.
جهد ضائع
توفير السياجات مطلب يتجدد كل موسم خريف لدى مزارعي الضفة وحتى لدى التعاونيات النسوية التي ترتبط عادة بالزراعة الشتوية وبعد انتهاء موسم الأمطار كما تقول آمنة بنت أباه من تعاونية سكام2 وهي تشير إلى أكوام من الأخشاب والجذوع وأغصان الأشجار هي كل ما تبقى من سور تعاونيتها العام الماضي.
وفي قرية بغداد 5من من بابابى في لبراكنه لا يختلف المشهد كثيرا حيث يتكرر الطلب ويتحسر المزارعون على ما ضيعوا من وقت وجهد وهم يحاولون تسوير مزارعهم بكل ما طالت أيديهم من أخشاب وصفائح الزنك وحتى عجلات السيارات.
متاريس وحواجز قد تصمد لأيام وأسابيع لكن أنى لها أن تحمي المزارع حتى موسم الحصاد في شهر ديسمبر؟؟!! يعلق أحد مزارعي القرية.
فاتورة باهظة
الأخشاب المقطوعة من جذوع الأشجار في شمامه هي أساس السياجات وتحديد الملكيات الزراعية التي عادة ما تكون مشاعة بين سكان القرية الواحدة ،وتتعدد الحواجز والمتاريس الخشبية التي يبدو بعضها عالقا داخل برك مياه الأمطار والمستنقعات التي تغمر سهول شمامه في مثل هذا الوقت من كل عام: إنه موسم الأمطار وارتفاع منسوب النهرالذي تجاوز المترين ،هذا العام ويخشى من أن يؤدي إلى فيضانات وسيول في مناطق الضفة.
وكما تختلط الملكيات الزارعية تكاد تختفي أي معالم لتمييز حقول الأرز المغمورة بالمياه والذي يمثل المحصول الأول لمزارعي الضفة كما يشرح بيبات ولد عبدو من قرية سكام والتي قصارى جهد مزارعيها أن يتمكنوا من استصلاح 16 هكتار ويزرعوها بالأرز بإمكاناتهم الشحيحة ومعداتهم البدائية ،لذا يظل مطلبهم الأول تزويدهم بوسائل ري حديثة تمكنهم من التحكم في منسوب المياه التي تغمر حقول الأرز وخلال كل مرحلة من مراحل الانتاج.
المياه المشكل والحل
للمزارعين حكايات وتجارب مريرة لا تزال تؤرقهم ولا يودون تكرارها تارة بسبب شح المياه عند البذر، وأخرى لوفرتها وغمرها الحقول قبل موسم الحصاد والكثير من تلك الذكريات المريرة عندما لا يجدون حيلة لجني غلالهم من الحبوب لانعدام "ماكينات" الحصاد.
لذا يطالب المزارعون ب"ماكنات" لرفع المياه والتحكم فيها وتوفير المبيدات الحشرية ومكافحة الآفات الزراعية فضلا عن الاستفادة من البذور المحسنة والسمادات العضوية، وماكنات الحصاد والتقشير بالنسبة لمزارع الأرز.
مساحات واسعة تغمرها المستنقعات والنباتات وحشائش السفانا وبقايا زوارق صغيرة متهالكة يتخذها السكان جسورا للعبور في المناطق غير المستصلحة من الضفة ،فيما تتناثر شجيرات من الطلح والأراك وحتى النخيل كنصب تذكارية لجور الإنسان وعمليات قطع الأشجار، وتدمير الغابات في هذا الحيز من ضفة النهر فيما حافظت الضفة الأخرى على غاباتها الكثيفة وأشجارها الباسقة المعمرة وتنوعها البيئي يعلق أحد السكان، إنها ثغرة غياب الدولة وضعف اهتمامها بالوضع الزراعي والتنموي في هذا الجزء من أرض الوطن.
استصلاح "ناقص"
في سكام وغيره من قرى شمام يتحدث المزارعون عن استفادتهم هذا العام من مشروع الشيشة الذي أطلقته السلطات، ويعتمد على استصلاح مئات الأفدنة من أراضي النهر وتوزيعها على السكان، مشروع لا يزال البعض ينظر له بكثير من الشك والريبة ،ليس فقط لضبابية المعايير المعتمدة في التوزيع والتي لم تكن عادلة وفق مسؤول قرية سكام، وهو يقول إن قريته لم تحصل إلا على 14 هكتارا فقط رغم أنها لا تبعد أزيد من 6كلمترات عن ضفة النهر، لكن المشكل والقول لولد إبراهيم هو في نظام الري وتوصيلات شبكة الصرف المعتمدة، والتي تكون أخفض في بعض الأحيان من مستوى الأراضي المستصلحة، مما يعني ضعف استفادة المزارعين من هذه الشبكة.
في انتظار "السياجات"
من ظلال إحدى الأشجار المعزز بأسمال ومزق قماش بالية يتناوب نساء إحدى التعاونيات الزراعية بسليبابي حراسة البراعم والوريقات الخضراء التي تفتقت من باطن الأرض كبواكير محصول الدخن والفول السوداني لهذا الموسم وبعدما سلمت من التهام القوارض لها لكنها تشكل وجبة مغرية للمواشي والأغنام الوافدة من الأحياء القريبة.
" إننا هنا في نوبة حراسة وحتى غروب الشمس ليتولى الرجال المهمة حتى الصباح وإلا خسرنا كل المحصول لأننا لا نملك سياجا لحماية مزارعنا، تتحدث مسؤولة التعاونية بنتو عبدي ولد ماصه، وهي تهب لرد إحدى هجمات الأغنام على جانب من المزرعة حيث يتهدد حياة المزارعين خطر آخر وهو الأفاعي التي تكثر في مثل هذا الموسم.
داخل مزارع شمامه والممرات الضيقة بين حقول الأرز لا يعدم المرء هذه الأيام غلات أخرى من الخضروات، والتي حان قطاف البعض منها، كثمار القرع المعروفة محليا ب"نادى" والتي اتخذ منها الشاب محمد عبد الله مجالا لنشاطه التجاري، حيث يعمل على شرائها من المزارعين وتجميعها ثم نقلها إلى نواكشوط ليجني منها ربحا مضاعفا، كما يقول وبتعب أقل، حيث لا تستغرق الدورة الزراعية لهذه الثمرة أكثر من 45 يوما.