موفد الفكر(روصو): إلى عهود قريبة كانت حرفة جلب الصمغ العربي أكثر الحرف رواجا واستقطابا لسكان قرى الضفة ،ومنطقة شمامه بالجنوب الموريتاني، حيث تنتشر أشجار القتاد المصدر الأول لهذه المادة الصمغية اللزجة ذات الاستخدامات الكثيرة والفوائد الطبية الجمة.
لكن موجة الجفاف التي ضربت المنطقة منذ سبعينيات القرن الماضي أصابت هذه التجارة الرائجة في مقتل ،لانحسار الغابات أمام طوفان الجفاف والتصحر الذي بسط أشرعته المدمرة في اتجاه مناطق الضفة ،حيث التقاليد الرعوية العريقة والنشاط الزارعي الضارب في أعماق التاريخ .
ومن المعلوم أن حرفة جمع الصمغ كانت من أكثر العادات رسوخا ومقاومة لعوامل التغيير والتحديث لدى ساكنة الضفة.
طقوس خاصة
يستجمع السبعيني ألب ولد همت من الكلم 26 على طريق روصو كل شتات ذاكرته التي هدها العجز والكبر، وهو يتذكر كيف كان يخرج بقليل من الماء والزاد ليمضي يومه في جمع الصمغ من لحى أشجار القتاد الناضر في وديان شمامه ،حيث كانت غابته تسد الأفق وتقطع الطريق على حد تعبيره.
كل عدته في رحلته اليومية جراب لجمع الصمغ وعصا طويلة مزودة بشباة مسننة يطلق عليها محليا "الوخظه" تعمل على قطف الصمغ الناضج من سيقان ولحى الأشجار، وفي المساء يعود بغنيمته الباردة التي سرعان ما تأخذ طريقها إلى أقرب مركز سكاني ،أو بالبيع مباشرة لوسطاء محليين لهذه التجارة الرائجة آنذاك.
يتحدث ولد همت وهو يشير إلى الكثبان الرملية التي احتلت مساحات شاسعة من قريته -عن إقبال الجميع على جلب الصمغ بما في ذلك الأطفال وحتى النساء ،خاصة عندما تمرع الأرض، وتزهر الأشجار،وتجود السماء في أعوام الخصب والنماء.
يتذكر أن المعاملات حينها كانت في أغلبها بالمقايضة قبل ظهور العملات الحديثة، فالصمغ يجري استبداله بالقماش أو بالسكر والشاي وغيرهما من المواد الغذائية وحتى بالتبغ، فالكل يريد سد احتياجاته وجني الأرباح من هذه التجارة الموسمية الخاصة.
وصفة سحرية:
تتعدد فوائد الصمغ من منتج طبيعي يضفي نكهة مميزة لمشروب "المذق" أو للألبان ،إلى مستحضر طبي لعلاج أمراض البطن والضغط ،ومسهل معوي ومطهر للمسالك البولية كما يقول قرويو الضفة.
أما الاستخدام الأكثر فهو من أجل البيع لوسطاء محليين يعملون على جمعه لصالح شركات التصنيع الدوائي والغذائي في السنغال وغيرها من دول المنطقة، كما يقول الشاب محمد الأمين من مدينة روصو والذي وجد في تجارة الصمغ منقذا من البطالة ومصدر لدخل لا بأس به على حد قوله.
انضم الشاب محمد الأمين إلى سماسرة الصمغ بروصو قبل سنتين تقريبا، لكنه خرج مرات عديدة مع "فزاعة العلك" وهم الذين يجنونه مباشرة من أشجار القتاد ،ولكل منهم "فزاعته" أو جيرابه الجلدي الخاص الذي يودع فيه "العلك " فور جنيه.
وأحيانا يطلقون على "الفزاعة " الملقاطه" ومن هنا جاء المثل الحساني "مان مصابين لملاقيط" والذي هو كناية عن الكلفة وعدم رفع مؤنة التحفظ في التعاطي مع الآخر.
لم يبق من طقوس جلب الصمغ إلا المسميات فقط ،على حد تعبير الشاب محمد الأمين فالعصا أو "أجيكار" أصبح من الحديد أو البلاستيك ،والجيراب الجلدي استبدل بالقماش أو أي وعاء يفي بالغرض، ورحلات جلب الصمغ أصبحت بالسيارات الرباعية وباستخدام أحدث أجهزة الاتصال وتحديد الاتجاه.
نوعان من الصمغ
يتحدث تجار "العلك " عن صنفين من هذا المنتج يتفاوتان في الجودة وفي طريقة الجني، فالأول صمغ طبيعي يجنى مباشرة من شجر القتاد وفي مواسم معينة ويمتاز بغناه بالمواد الفعالة والعناصر الطبيعة، أما الثاني فيسمى"علك" السيره ،ويجنى من خلال إحداث تشققات في جذوع الأشجار، سرعان ما تمتلئ بالمادة الصمغية ويجري اختراطه في مواسم القطاف وموطنه الأول ولايتي كيهيدي وسليبابي.
وإذا كان الصنف الأول يمتاز بخصائصه الدوائية ،فإن محصوله يظل أقل من الصنف الثاني ،"علك السيره" المستخدم على نطاق واسع في محلات غسيل الملابس بنواكشوط.
مضاربات واحتكارات
وكأي منتج ثمين وفي ظل ارتفاع الطلب على الصمغ، استقطبت تجارته الكثيرين خاصة في المدن الكبرى بالضفة، وذلك في مواسم جنيه فهناك وسطاء كثر يعملون على شرائه وبيعه لممثلي شركات التصنيع، ويتحدث الباعة في روصو عن وصول سعرالكلغ من الصمغ العام الماضي 500أوقية مما يدل على وفرة المنتج فيما يتعدى سعره في غير مواسم القطاف حدود 1500أوقية قديمة.
ويظل العرض والطلب عاملين رئيسيين في تحديد أسعار "العلك"، لكن ذلك لا يعني أن تجارة هذا المنتج الحيوي دوما ما تسلم من الاحتكار والمضاربات التي ترفع من أسعاره، وتحد من فرص الاستثمار فيه يعلق أحد الباعة بروصو.