خريف الكبلة/ خالد الفاظل

قمتُ بالأمس بتسجيل الدخول لأول مرة إلى خريف ترارزة العميقة (المذرذرة وأركيز). كانت الوجهة متنزه "جوخه" ذائع الصيت. بيد أن حداثة طريقه بالأمطار جعل مساره رطبا ولينا ولا يتعاطف مع السيارات التي لا تتمتع بالدفع الرباعي. عندما استفسرنا سكان أركيز عن مسار الطريق إلى جوخه؟ قدم لنا الأول إجابة مليئة بالمنعرجات المجازية، أما الثاني فاستوقفه نطقنا المخفف لحرف الجيم وطلب منا إصلاح مخرج الجيم قبل الاهتداء إلى مخرج الطريق مع حضور ابتسامة عريضة أبطأت فوران بركان (التشرگي) بدماء رفيقي صاحب السؤال والفرامل والمقود. أما أنا فأعجبني درس اللسانيات واستفدت منه أن نطق جوخه يتطلب تمطيط الشفتين نحو الأمام كما هو الحال عند رسم قبلة أحادية، والتي تستخدم غالبا عند التودد والتوديع عن بُعد...

تبين لنا من طلائع الطريق المنقوعة أرضيتها في مياه الأمطار أن البحث عن خيار آخر للانتجاع لا مناص منه، خاصة بعد أن شاهدنا سيارة مماثلة لسيارتنا في الطراز تعود أدراجها بعد محاولة عبور باءت بالاستسلام..

عدنا أدراجنا دون تسجيل التفاعل الواقعي مع جوخه للأسف الشديد، لكن مناظر الأرض المكسوة بالعشب الاخضر والممتدة على جنبات طريق (تگنت-المذرذرة -أركيز) جعلت خيارات 'التجويخ" أمامنا كثيرة. استوطنا عريشا فارغا ومعزولا تقف أعمدته في منخفض خصيب بين أركيز والمذرذرة وبعيداً عن الطريق المعبد، مرتفع تعلو تلاله وتهبط جاعلة الأفق المكسو بالمناظر الخضراء تحت السماء المطرزة بالغيوم البدينة يشكل انحناءات جميلة مثل صورة خلفیة نظام ويندوز الشهيرة مع وجود أنيق لقطعان الإبل والأغنام وأحيانا البقر عند الاقتراب أكثر من أركيز. كما أن التصاق نبتة الحسكنيت(أنيتي) بثيابي عند المشي قطع عندي الشك باليقين بأن خريف (الگبلة) ليس دعاية افتراضية مُبالغ في تسويقها، بل هو خريف ملموس ولا يقل خصوبةً وجعاريناً عن خريف (الشرگ) مع استثناءات قليلة تتعلق بتجانس التضاريس؛ مثل غياب الهضاب الجبلية والكهوف وندرة البطاح العريضة ومناظر عناق الأودية الكثيفة مع الكثبان الرملية المتوثبة. لكن؛ لخريف (الگبلة) عدة مزايا تجعله أفضل الخيارات اقتصاديا ونفسيا وصحيا خاصة للذين يجدون متعة الاستجمام في حياة البادية فقط. ويمكن إجمال مزايا خريف ترارزة العميقة في الآتي:

- القرب من العاصمة نواكشوط(220كلم تقريبا) وهو مما يستهوي غالبا أصحاب الانشغالات الكثيرة والعطل الأسبوعية والمحدودة الآجال، إضافة للمتضررين من ارتفاع أسعار البنزين(ايصانص) والمازوت(گزوال) ثم أصحاب فوبيا الأسفار الطويلة والشاقة..

- اختلاط (آماريگ) ينابيع الخريف بتيارات الساحلية القادمة من شواطئ المحيط الأطلسي یجعل الطقس مناخيا أكثر لطفا ببوادي ترارزة العميقة(كرمسين-تگنت-المذرذرة وأركيز) وأكثر مقاومة لإرهاب "الصدوة" بالنسبة للمهتمين بالمحافظة على نضارة البشرة وتفتيحها..

- جودة الطريق المعبدة، مما يجعل السفر خاليا من المطبات والحفر، مع أن مقطع (تگنت-المذرذرة) إن لم يخضع للترميم والصيانة سيتحول في السنوات القليلة القادمة لكابوس مثلما هو حاصل مع مقطع بتلميت-ألاگ حاليا.

أعتقد أن الأذواق لا تُناقش مطلقاً. لكن ما أردت قوله هنا أن لدى ولاية ترارزة خريف حقيقي وجذاب وبلا عذاب بكل ما في "الخريف من جعارين". كل ما ينقص الخريف في بوادي ترارزة هو وضوح السكان هناك أثناء الإجابة على الأسئلة المحددة الوجهة، مع أن النانة وهي إحدى فنانات (الشرگ) قالت: "هو الوضوح أثرو مباح".

على كل حال؛ الوطن كله للمواطن ولا فرق أبداً بين الجهات إلا في خرائط گوگل. أما تلك الخصوصيات المتعلقة بالثقافة واللغة وتباين الأمزجة والطبائع فهي مثرية للتنوع المجتمعي والنُكات(التموليح) والتنافس الايجابي. أما المواطن سواءً کان من أهل الساحل أو أهل الشرگ أو أهل الگبلة فإنه ما زال ينتظر بفارغ الأمل والصبر انتعاش الخدمات والبنية التحتية وجودة الحياة وشفافية مؤسسات الدولة وقربها منه ليصبح مواطناً سعيداً حتى ولو كان محسوباً على "أهل التل".
 
الصورة المرفقة بعدستي، وهي خالية تماما من كل المؤثرات البصرية(فلتر وغيره). وكان يمكن أن تكون أجمل من هذا لو أنها أخذت باحترافية وبكاميرا أكثر جودة ودقة في التصوير من عدسة سامسونغ A10.