نسائم الإشراق الحلقة رقم (1710)21 سبتمبر2021م،13 صفر1443هـ، مذكرات الشيخ د.يوسف القرضاوي الحلقة رقم (741).

مع المقدِّم محمد عبد الوهَّاب:

وفي صيف سنة 1995م دق جرس الهاتف في منزلي بمدينة نصر، فرفعت السماعة، فقال المتصل: أنا المقدم محمد عبد الوهاب من مباحث أمن الدولة، وأرجو أن أتشرف بمقابلة فضيلتكم في بيتكم في الوقت المناسب لكم، وتحديده متروك لكم.

قلت له: مرحبًا بكم في أي وقت، ولكني مسافر غدًا إلى الإسكندرية، وسأبقى هناك نحو خمسة أيام أو ستة، ثم أعود، ويمكنكم أن تتصلوا بي بعد رجوعي لنحدد وقت اللقاء.

قال: أنا أترك لفضيلتكم رقم تليفوني، وبعد عودتك واطمئنانك، تستطيع الاتصال بي وقت ما تشاء، وتحدد موعد زيارتي وقت ما تشاء. وأعطاني رقم تليفونه.

وبعد عودتي في أوائل أغسطس على ما أذكر، اتصلت به، وقلت له: يمكنك أن تشرفني غدًا في الساعة الثامنة والنصف مساءً، وأهلًا بك وسهلًا.

وفي الموعد المحدد، حضر الأخ المقدم محمد عبد الوهاب، وقدم لي نفسه، وقال: أنت رجل معروف في العالم الإسلامي كله، ونحن للأسف في بلدك، لا نعرفك حق المعرفة. وقد جئت أبلغك تحيات المسئولين عني، وإعجابهم بك، وإكبارهم لك. وأريد أن أسألك: هل هناك أي متاعب تشكو منها، يمكن أن نساعد في حلها؟

قلت مبتسمًا: هل تريد الصراحة؟

قال: نعم، لا شك.

قلت: المتاعب تبدأ من عندكم!

قال: كيف؟

قلت: إن لي زيارات شتى لبلاد كثيرة في أنحاء العالم الإسلامي وخارجه، وفي كثير من البلاد يقابلني الوزراء، ومندوبو الرؤساء، إلا في بلدي؛ فأوقف فيه ويؤخذ جوازي، وأنتظر وقتًا قد يقصر وقد يطول.

قال: أرجو أن تأخذ رقم هاتفي، وتتصل به قبل حضورك؛ لأرتِّب لك الأمر، ولا تحدث متاعب إن شاء الله.

ولم أعلق على ذلك؛ لأن هذا الاتصال ثقيل على نفسي، ولا أحب أن أقيد نفسي اختيارًا بإجراء روتيني، وليجر عليَّ ما يجري على الناس، ثم طفق يلقي عليَّ أسئلة أخرى، وكان في الحقيقة معي في غاية الأدب.

قال لي: هل عندك مانع أن أوجِّه إليك بعض الأسئلة لأسمع إجابتك عنها؟

قلت له: لا مانع قط، أنا رجل من أوائل مهمتي أن أتلقى أسئلة الناس وأجيب عنها.

رأيي في المحاكمات العسكرية:

قال: ما رأيك في المحاكمات العسكرية؟ والأحكام التي صدرت فيها؟

قلت: هل تريد رأيي بصراحة؟

قال: نعم.

قلت: الأحكام العسكرية كانت قاسية، بل شديدة القسوة، على أناس لم يقترفوا جرمًا، ولم يمارسوا عنفًا. فمن المعلوم لديكم أن الإخوان منذ خرجوا من سجون عبد الناصر إلى اليوم، لم يثبت في حقهم أنهم استخدموا العنف أو شاركوا فيه، ولا لمرة واحدة.

بل أنتم - ولا شك - تعلمون الصدامات التي وقعت بين شباب الإخوان في الصعيد وشباب جماعة الجهاد. حيث يتهمون الإخوان بالتخلي عن مبدأ «الجهاد»، والمهادنة للسلطة، والاستسلام للطواغيت... إلخ.

قال: ولكن لا يزال في الإخوان جماعات تتدرب على السلاح؟

قلت: جماعة الإخوان جماعة كبيرة، وممتدة في شرائح متنوعة من الشعب، ولا يبعد أن يوجد فيها عشرة أو عشرون يفكرون مثل هذا التفكير إن صح ذلك، وأنا أحكم على المجموع لا على الجميع، والمهم هو الاتجاه العام في الجماعة، الذي تقوم عليه التربية والثقافة والتوجيه العام. وقد كان الإخوان قديمًا يحتاجون إلى هذا النوع من التدريب العسكري حين لم يكن هناك تجنيد إجباري، أما في عصر التجنيد الإجباري فكل المصريين يدخلون الجيش، فلا حاجة لمثل هذا التدريب.

ثم عاد الحديث إلى الأحكام العسكرية. وقلت له فيما قلت: ولماذا المحاكمات العسكرية لأناس مدنيين ليس فيهم عسكري واحد؟ ثم هم لم يمارسوا أي عمليات عسكرية؟ ولم يتجهوا إلى العنف أو يجربوه بوجه من الوجوه، فيما أعلم عنهم، أو عمن أعرفه منهم على الأقل.

أعرف من الدفعة الأولى: الدكتور عصام العريان، أعرفه منذ كان طالبًا في كلية الطب، وكان أميرًا للجماعة الإسلامية، وقد كان حريصًا على أن ينتقل بالطلاب من الغلو والتشدد إلى الوسطية، وكان يستعين بي وبشيخنا الغزالي على ذلك. وأعرفه بعد أن نضج وأصبح وجهًا إسلاميًّا مصريًّا مشرّفًا له حضور واضح في المؤتمرات والندوات التي تعقد داخل مصر وخارجها. ماذا ارتكب عصام العريان حتى يحكم عليه بخمس سنوات؟

وأعرف من الدفعة الثانية: الدكتور عبد الحميد الغزالي، وهو أستاذ متخصص في الاقتصاد الإسلامي، ومدير لمعهد البحوث والتدريب في البنك الإسلامي للتنمية، وقد جمعتني به حلقات وندوات ومؤتمرات خاصة بالاقتصاد الإسلامي، وهو يعيش بجدة منذ سنوات، وليس من نشطاء الإخوان.

قال: ولكنه صار من نشطاء الإخوان بعد أن توفيت زوجته.

قلت: هو لحق؟! إنه عاد من جدة منذ عدة أشهر فقط.

السماح بالوجود القانوني للإخوان:

قال: ولكن الإخوان يقيمون تنظيمات مخالفة للقانون؟

قلت له: سأسلّم معك بما تقول. ولكن لماذا تُلجئون الإخوان لمخالفة القانون؟

أنتم تعلمون أن الإخوان جماعة موجودة بالفعل، وتنمو وتتكاثر ككل كائن حي، فلماذا لا تسمحون لها بالوجود القانوني؟ أنتم سمحتم بذلك للشيوعيين والناصريين والقوميين وسائر الفئات، إلا الإخوان، أليس الإخوان مصريين؟ أهم مستوردون من خارج تراب الوطن أم هم جزء منه؟

إنَّ الصواب في ذلك: أن يُسمح للإخوان بالعمل علانية وفوق الأرض، وتحت سمع الدولة وبصرها، وبإذن من القانون، بدل أن نلجئهم إلى العمل تحت الأرض. فهذا من حقهم بوصفهم مصريين... والتزامهم بالدين وبالإسلام لا يجوز أن يكون سببًا في حرمانهم من ممارسة حقوقهم المشروعة.