هذا ما علينا أن نستخلصه من أحداث أركيز
في يوم 24 إبريل 2021 شهدت مدينة باسكنو احتجاجات عنيفة وأعمال شغب، وكان السبب المباشر في تلك الاحتجاجات غياب الحماية المدنية في المدينة وعدم تدخلها بعد حدوث حريق في محل تجاري، وقد تم خلال هذه الاحتجاجات رفع نفس الشعار المطالب بتوفير بالماء والكهرباء.
في يوم 3 مايو 2021 شهدت مدينة الطينطان احتجاجات عنيفة وأعمال شغب، وكان السبب المباشر في تلك الاحتجاجات هو الانقطاع المتكرر للكهرباء والماء.
في يوم 2 يوليو 2021 شهدت مدينة كبني احتجاجات عنيفة وأعمال شغب، وكان السبب المباشر في تلك الاحتجاجات هو أيضا الانقطاع المتكرر للكهرباء والماء.
في يوم 22 سبتمبر 2021 شهدت مدينة أركيز احتجاجات كانت هي الأعنف، وأعمال شغب كانت هي الأخطر، وقد تجاوزت هذه المرة المباني الحكومية لتصل إلى منزل عمدة المدينة، وكان السبب المباشر والمعلن لهذه الاحتجاجات هو نفس السبب المباشر لاحتجاجات الطينطان وكبني، أي الانقطاع المتكرر للكهرباء والماء.
إن تكرر مثل هذه الاحتجاجات العنيفة يعدُّ أمرا مقلقا وفي غاية الخطورة، وهو يستوجب منا جميعا ( سلطة وساسة وصناع رأي ) وقفة تأمل، وأخذ دروس وعبر، حتى لا يتكرر هذا النوع من الاحتجاجات العنيفة التي يتخللها تخريب ونهب للأملاك العامة والخاصة.
بداية ردة الفعل يجب أن تتمثل في توقيف ومحاسبة كل من شارك من قريب أو بعيد في نهب وتخريب الأملاك العامة والخاصة في مدينة أركيز. وعلى السلطات الأمنية والقضائية أن لا تتساهل إطلاقا مع أي شخص ثبتت مشاركته في أعمال الشغب هذه، وأن لا تقبل فيه شفاعة أو تدخل. يجب على السلطة أن تثبت عمليا أن الاعتداء على الأملاك العامة والخاصة هو خطٌ أحمر، وأن من يتجرأ على تجاوز ذلك الخط الأحمر سيدفع الثمن باهظا.
هذا أول ما يجب أن يُقام به كردة فعل على أحداث أركيز، وهذا هو أبسط ما يمكن أن يُقام به، فأعمال الشغب موثقة بالصوت والصورة والسلطات الأمنية لن تجد صعوبة في التعرف على مرتكبي أعمال الشغب ومحرضيهم، وما إن كان هناك استغلال لتلك الاحتجاجات لأغراض أخرى. إن الأصعب يتمثل في تحديد ومحاسبة من هيأ الأجواء والظروف لأعمال الشغب التي شهدتها مدينة أركيز، وشهدتها من قبل ذلك مدن باسكنو والطينطان وكبني.
ما حدث في أركيز وفي مدن أخرى ليسا حدثا عابرا، وعلينا أن لا نتجاهل تسلسل الأحداث، لنتوقف فقط مع اللقطة الصادمة في المشهد (اللقطة الأخيرة).
بدءا لابد من التذكير بأننا نعيش ـ حالنا في ذلك كحال بقية بلدان العالم ـ ظرفية اقتصادية واجتماعية صعبة بسبب جائحة كورونا، والتي ضايقت الناس في أرزاقهم، والتي كان من آثارها ارتفاع كبير في أسعار بعض المواد الأساسية. لقد كان المواطن يعاني بشكل كبير من قبل جائحة كورونا، ولا شك أن معاناته قد ازدادت بسبب تلك الجائحة، والمقلق أكثر أن معاناته قد تزداد في صيف هذا العام الذي شهد تناقصا في مستوى تهاطل الأمطار.
هذه الوضعية الصعبة تستلزم من السلطة أن تكون أكثر صرامة في محاسبة كل موظف عمومي ضعيف الأداء أو مارس فسادا، ويتأكد الأمر عندما يكون ذلك الموظف يعمل في مؤسسة خدمية حساسة أو في قطاع خدمي حيوي ذي علاقة مباشرة مع المواطنين.
لا يجوز في أي وقت من الأوقات أن يتم التساهل مع ضعف الأداء أو مع ممارسة الفساد، ويتأكد ذلك أكثر في الأوقات الصعبة التي تزداد فيها معاناة المواطنين لسبب أو لآخر، ويتأكد أكثر من ذلك عندما يكون سوء الأداء أو ممارسة الفساد يتم داخل قطاع حيوي حساس يقدم خدمة أساسية للمواطنين (الماء، الكهرباء، التعليم، الصحة...).
لقد زرت مع نشطاء في المجتمع المدني مدينة أركيز قبل شهرين من الآن، وكان ذلك بدعوة من بعض الأهالي للاطلاع على ما يعتبرونه فسادا في مرفق شبه عمومي يتبع للبلدية. حدثنا بعض الأهالي هناك عن سوء خدمات الماء والكهرباء والاتصال في المدينة، وعن عمليات بيع معلنة ومتكررة لمحروقات شركة الكهرباء من طرف القائمين عليها، وعن مظاهر ثراء فاحش لبعض العاملين في فرع الشركة، وذلك في ظل انقطاعات متكررة للكهرباء.
ما قيل لنا في أركيز، سنسمع شيئا مشابها له إن زرنا كوبني أو باسكنو أو الطينطان أو أي مدينة أخرى في الداخل.
في أغلب مدن الداخل ـ بل في كلها ـ هناك استياء كبير من ضعف بعض الخدمات الأساسية، وهناك فساد بَيِّن يُمارس في المرافق العمومية، ودون أن تكون هناك محاسبة صارمة أو عقوبة قاسية ضد من يُمارس ذلك الفساد البَيِّن.
لقد أصبح من الضروري، بل ومن الملح جدا، وفي ظل هذه الظرفية الصعبة التي يعيشها المواطن أن يتم التعامل مع القطاعات والمؤسسات الحساسة التي تقدم خدمة أساسية للمواطنين بأسلوب جديد يختلف عن أساليبنا القديمة، يقوم على ثلاثة مرتكزات أساسية:
1 ـ أن يكون التعيين في القطاعات والمؤسسات الخدمة خاضعا لمعايير انتقاء صارمة، حتى يتم اختيار الأكفأ والأفضل لإدارة وتسير تلك المؤسسات وفروعها في الداخل؛
2 ـ أن تكون الرقابة على هذه القطاعات والمؤسسات رقابة صارمة ومستمرة؛
3 ـ أن تكون العقوبة مشددة على كل من تثبت عليه ممارسة فساد في أي قطاع أو مؤسسة من المؤسسات التي تقدم خدمة حيوية للمواطنين.
إن ضعف أداء المرافق الخدمية في الداخل بسبب التسيب الإداري والفساد، وغياب المنتخبين والسياسيين المحليين الذين لا يرون ضرورة في خدمة المواطنين في دوائرهم الانتخابية إيمانا منهم بأن السلطة ستواصل فرضهم على أهل تلك المناطق، وأنه سيكفيهم إنفاق نسبة من الأموال التي نهبوها في الحملات الانتخابية للمحافظة على مقاعدهم الانتخابية. إن استمرار ضعف أداء المرافق العمومية، وغياب المنتخبين المحليين عن دوائرهم الانتخابية هو ما يشكل الأرضية المناسبة لحدوث مثل هذه الاحتجاجات، ولذا فإن العقوبة يجب أن تشمل بالإضافة إلى كل من شارك ـ بشكل مباشر ـ في تلك الاحتجاجات العنيفة، كل أولئك الذين شاركوا في تهيئة الأجواء لحصول تلك الاحتجاجات. هناك ثلاثة أنماط من العقوبة يجب أن تنفذ ضد من شارك في تلك الاحتجاجات ومن هيأ لها الأجواء، وهذه الأنماط الثلاث هي :
1 ـ عقوبة أمنية وقضائية ضد كل من شارك بشكل مباشر أو غير مباشر في أعمال الشغب؛
2 ـ عقوبة إدارية ضد كل موظف للدولة يعمل في فرع مؤسسة خدمية في الداخل ظهر أنه ضعيف الأداء أو ممارس للفساد؛
3 ـ عقوبة سياسية : وهذه على الحزب الحاكم أن ينفذها، وتتمثل في معاقبة كل منتخب أو سياسي محلي عُرِف بالغياب عن دائرته الانتخابية في أغلب أوقات مأموريته الانتخابية. إن الدور الأول للمنتخبين والسياسيين المنتمين للحزب الحاكم ـ أي حزب حاكم ـ يجب أن يكون خدمة المواطنين في الدوائر الانتخابية، وبعث الأمل في نفوسهم بغد أفضل، وتسويق منجزات الأنظمة التي يمثلونها. ويكفي لمعرفة ضعف الأداء السياسي والإعلامي للنظام أنه لا أحد يتحدث اليوم عن القطع الأرضية المزودة بالماء والكهرباء التي توزع على الحراس في تفرغ زينة، والتي تمنح معها مبالغ مالية وبطاقات تأمين صحي.
حفظ الله موريتانيا...