في لقائي برئيس صندوق النقد الدولي قلت له بصفة صريحة وبحضور معاونيه، وأفراد وفدنا إننا مستعدون للنقاش. عندها بدأ بالقول إن وضع موريتانيا بلغ درجة كبيرة من الخطورة، ومن التدني لدرجة لا تسمح للصندوق بغير تشجيع الدول المانحة على تقديم هبات غير معوضه، لكن لا يمكن أن نشجع المستثمرين بالتوجه إلى موريتانيا.
وبأنه من أجل مناقشة برنامج تقويمي محكم يجب أن تبدي موريتانيا حسن نيتها بالاستجابة لشرط هو الأول الذي سنبدأ به، وهو تخفيض سعر صرف العملة، الذي بالنسبة له لا يعكس بصدق الوضع الحقيقي لاقتصاد البلد.
عندها شرحت أن الوضع الذي تحدث عنه ورثناه من الأنظمة السابقة، والنظام الحالي تحمل تبعات من سبقه، ومن هذه الأوضاع الصعبة تحمله الديون الموروثة، وبحثه عن طريقة لتسديدها، رغم أن ذلك لا يمكن بدون وضعية اقتصادية أقوى وأحسن مما نحن عليه، وهو ما نطلب مساعدتهم من أجله.
وذكرته من بين أمور أخرى بأن استفادة الاقتصاد الغربي من هذه الديون كانت أكثر مما استفدناه نحن، وكأمثلة على ذلك ذكرته بظروف بناء مصنع تكرير البترول سنة 1973م حيث أن هناك وزيرا موريتانيا جاء إلى بلجيكا عرضوا عليه فكرة بناء مصنع لتكرير "البترول بتكلفة تصل إلى 7 ملايين دولار مع مدة إعفاء تصل إلى 10 سنوات وبالنسبة للوزير الموريتاني لأن عمره الوظيفي لا يتعدى سنتين أو ثلاث رضي بالمصنع، واعتبره فتحا وإنجازا غير مسبوق.
وقتها كانت علاقاتنا مع الجزائر قوية جدا فصمم المصنع لتكرير "البترول" الجزائري، وبعد تشغيله بسنة أو اثنتين اختلفنا مع الجزائر وتعطل المصنع لعدم تزويده بالخام الجزائري، وبعد مرور 10 سنوات على اغلاقه انقضت فترة الإعفاء، ووجدنا أنفسنا ملزمين بتسديد 400 مليون أوقية كدفعة أولى من القرض، بينما المصنع مغلق، وعماله يتقاضون رواتبهم من الخزانة العامة.
إنها جملة من الحقائق المؤلمة التي تؤزم العلاقة بينا وبين المؤسسات النقدية الدولية:
- فالمصنع مستورد من الغرب.
- والدراسات قام بها غربيون.
- والمستشارون الفنيون كانوا من الغرب.
إذا، الغرب استفاد من هذا وتتراكم الديون على كاهل موريتانيا وعلى حساب تنميتها.
ثم إن مصدر هذه القروض غالبا هو صناديق دول البيترودولار، والغرب في النهاية مستفيد دائما من المقرض والمدين دون أن يدفع شيئا.
وهذا مثل مصنع السكر الذي أسس قبل ذلك، ومثل ذلك تمويلات متعددة "لصونادير" استفاد منهم الغرب الذي كان يعد الدراسات، ويرسل الخبراء، ويتابع الملفات، بينما تدفع بلادنا لكل هؤلاء من ثروتها، وتسدد لهم الديون التي منحوها بشروطهم المجحفة دائما.
وقد كان مما قلت لمدير صندوق النقد الدولي: أنه ونتيجة لكل هذا نحن مستعدون للتصدي لمخلفات السياسات السابقة، لكننا مصممون على بناء اقتصادنا بصفة مستقلة وموضوعية.
وإذا وجدنا أن موريتانيا من أجل توازن اقتصادها تحتاج تخفيض العملة فليست هناك مشكلة في ذلك، ففرنسا تخفض عملتها وكذلك ألمانيا وأمريكا، ولكن بعد أن تقتنع بأن مصلحتها في ذلك.
والخطة التقويمية التي نحن بصددها الآن، والتي نريد منكم العون عليها، نريدها مبنية على اقتصاد متوازن ومستقل ومنفتح.
ونظرا لما سبق ولرمزية العملة، وشحنتها المعنوية فإننا نرجو أن لا يكون المساس بها شرطا لنقاش هذه الخطة، دعونا نجعلها عنصرا عاديا من عناصر بناء هذه التوازنات.
وإذا أمكن القيام بهذه التوازنات دون المساس بقيمتها الحالية، فذلك ما نفضله.
وبعد نقاشات لمدة ثلاث أو أربعة أيام توصلنا إلى إطار للتفاوض، وقبِل الصندوق أن تكون قضية العملة هي النقطة الأخيرة، وحصلت تغييرات في الطواقم التي كانت تكلف بالإشراف على مفاوضاتنا.
وبعد بضعة أشهر من عودتنا، زارنا وفدا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. و بينما نحن وإياهم عاكفون على صياغة اتفاق توصلنا إليه بعد مفاوضات شاقة، اتفاق بموجبه كانت بلادنا ولأول مرة في تاريخها ستنتزع من هاتين المؤسستين تنازلات قيمة ،في هذا الوقت بالذات حصل الانقلاب على الرئيس محمد خونه ولد هيداله.
فرجع الوفدان فورا إلى واشنطن، وعادا إلى شروطهما القديمة وأثقل.
وهكذا تبدد الحلم و بقيت بلادنا في مخالب هاتين المؤسستين العدوتين لآمال الشعوب، وذلك حتى الآن.
أذكر أن سعر الفرنك الفرنسي كان حينها يساوي 17 أوقية و الدولار 45أوقية، و 1000 أوقية تساوي خمسة عشر ألف فرك أفريقي وقس على ذلك أسعار السلع والخدمات الضرورية.
وإذا كان هذا الانقلاب، انقلابا سياسيا على ولد هيداله، الذي يمكن أن تكون له مبرراته السياسية مع اختلافنا في ذلك فإني اعتبره انقلابا اقتصاديا على الدولة الموريتانية.