لاحظت منذ فترة من خلال الحديث والتعاطي مع الجيل الجديد - من أبناء المدينة - أنه جيل مستلب حضاريا في الغالب، مهدد في صميم انتمائه إلى ثقافة هذه الأرض واهتمامات أهلها، بل وإلى الثقافة العربية الإسلامية بشكل عام، فقد تربى هذا الجيل بين أحضان التلفاز وشاشة الهاتف الذكي، وتشبع بالثقافة الوافدة التي تلقاها وتلقفها عن طريق مسلسلات الكرتون، وتطبيقات التواصل الاجتماعي، والإعلام الموجه بشكل دقيق إلى وجدان الطفل الطري وعقله البريئ،
هذا الإعلام الملغوم الذي أنشئت أفكاره وأسراره، وصممت أهدافه ومقاصده في بيئات مغايرة لبئتنا الثقافية وواقعنا الاجتماعي والاقتصادي لا يناسب أطفالنا ومن الضروري الملح أندرك جيدا أنه يشكل خطراً حقيقيا على أخلاقهم وأذواقهم، وبصائرهم وأبصارهم، وأنه مع الوقت سيجتثهم من أصولهم الثقافية وانتماءاتهم الحضارية، فقد لاحظت أن أغلب هذا الجيل الجديد الذي تربى على هذه الثقافة الموجهة الوافدة ونضج عليها، أصبحت لديه عوالمه المختلفة واهتماماته الخاصة، وثقافته الهجينة التي لا تنتمي لهذه الأرض ولا تعكس واقع المجتمع، ولاتمت إلى الثقافة العربية الإسلامية بأية صلة، ولا تنتمي إلى الموروث الثقافي الشنقيطي الأصيل الذي كان الانتماء إليه - إلى وقت قريب - يستلزم حفظ القرآن الكريم، ومعرفة أبجديات فرض العين، وقرض الشعر بشقيه، - أوحفظه على الأقل - ومعرفة مقامات الموسيقى، وأيام العرب، وحكايات الملاحم والبطولات، وقصص السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، وسير الأعلام، وأخلاق العلماء والعظماء، ومآثر الكرم والشهامة والنبل، وأهم القيم من بر الوالدين وتوقير الكبير ومساعدة الضعيف....
لقد ظل هذا الكم الهائل من القيم والمعارف حاضرا في مجلس "الشاي" وأحاديث السمار، يعلل به الكبار الأطفال، وينشئون عليه الفتيان، ولكل مرحلة عمرية ما يناسبها من أدبيات هذا الحديث الثقافي والنسق القيمي، فمن حكايات الجدات التي ينام الأطفال على إيقاعها الجميل، إلى "المدورة" الشعرية، والاختبار في حفظ جزء من القرآن الكريم، والامتحان بإعراب بيت معين، والاستماع لرب الأسرة وهو يحكي عن بطولات المقاومة الموريتانية ضد الاستعمار الفرنسي تارة والحديث عن الانتصارات الإسلامية تارة أخرى، وعن ملحمة التأسيس التي تجر إلى الحديث عن قادة البلد وأبطاله ورجاله والمصاعب التي واجهتهم في بداية المسيرة، لتقود قاطرة هذا الحديث الثقافي إلى ذكر العلماء والشيوخ والتلاميذ، وأيام "المحظرة" المجيدة وذكرياتها الخالدة، وعن المعاناة في سبيل طلب العلم والجد في تحصيله، والحرص على تمثل قيمه،
ومن الملاحظ أنه من تربى في تلك البيئة ونشأ على تلك القيم سيتخرج من هذه المدرسة الاجتماعية الرائعة حاصلا على شهادة الفتوة التي تعني الإلمام بمختلف القيم والمعارف خصوصا ما يتعلق منها بأمجاد الوطن وتاريخ الأمة، عكس هذا الجيل الجديد الذي يعيش طفولته ويتراهق و"ينضج" وهو لم يعرف غير نجوم الفن والسينما ومشاهير اللاعبين والمدونين، وأبطال المصارعة ومدربي الأندية وغيرهم من نجوم الشاشة الصغيرة التي ملأت مستودع الحفظ عند الأطفال، وشغلت مساحة اهتمامهم، واصطنعتهم لنفسها وصاغتهم كما تريد لما تريد،