يلقي البحار السالك عبد الله نظرة وداع إلى المرفأ خلفه ،وهو يضج بالحركة والنشاط في أول أيام العطلة البيولوجية للصيد الصناعي، وبعد آخر رحلة صيد له في الأعماق عاد منها بكميات قليلة من سمك الأخطبوط، كانت دون مستوى آماله وإن كان الوضع أفضل من العام الماضي الذي يطلقون عليه عام انقراض الأخطبوط على حد تعبيره.
ويفكر السالك الذي أمضى أزيد من 20 عاما في مهنة الصيد في ترك مهنة الصيد إلى غير رجعة ،على غرار كثيرين من رفاقه التحقوا بمقاليع استخراج الذهب في الشمال الموريتاني، أو بأي مهن أخرى تكفل مصدر رزق لهم ولأسرهم وذلك في ظل الشكوى من ركود مهنة الصيد ،وتراجع مردوديتها، فلم يعد المحيط كما كان يجود بالخيرات، والصيد التقليدي لم يعد مصدر رزق يمكن التعويل عليه كما كان الحال قبل أعوام كثيرة كما يقول السالك.
معاناة تتجدد
في مرسى الشاطئ المجاور ترسو عشرات الزوارق والقوارب ،التي أخذت مواقعها في انتظار انتهاء العطلة ورفع الحظر عن الصيد في الأعماق، فيما انتقل بعض البحارة لتأجير زوارقهم، والعمل عليها لنقل الأفراد والمؤن في عرض البحر مما يقلل من خسارتهم خلال مواسم التعطيل.
وعلى شاكلة السالك يشكو بحارة نواذيبو من تأثيرات ما يسمونه بعمليات الاستنزاف للثروة البحرية، بفعل السفن العملاقة والصيد الجائر على مدى الأعوام الماضية ،وفي ظل تكاثر مصانع السمك التي تعدى عددها الأربعين ويعمل الكثير منها في إنتاج دقيق السمك أو ما يسمى هنا بمصانع "موكا".
إلى جانب تداعيات جائحة كورونا وما نجم عنها من ارتفاع في أسعار المواد الاستهلاكية وكذا الأدوات المرتبطة بالصيد.
يقول الصياد محمد محمود: إن ارتفاع كلفة الاصطياد وتدني مستوى الإنتاج أدى إلى ارتفاع أسعار الأسماك في السوق المحلية ،بشكل يفوق القدرات الشرائية للمواطن العادي، الأمر الذي ضاعف من حالة الركود والكساد.
في السوق المجاور وهو أكبر أسواق السمك بنواذيبو كانت حركة التسوق في حدودها الدنيا، في ظل تقلص العرض وغلاء أسعار الأسماك من النوعيات الجيدة ،كالسمك المعروف محليا بكبارو حيث يباع الكلغ أزيد من 2500أوقية قديمة، فيما تتراوح أسعار النوعيات الدنيا ما بين 300 إلى 800أوقية قديمة للكلغ، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 30% على أسعار في نفس الفترة من العام الماضي، يعلق أحد المتسوقين.
تراجع حاد
ويرجع مختصون أسباب هذا الركود إلى تراكمات من الفساد، والاستنزاف المفرط للشواطئ الموريتانية لصالح الأساطيل الأجنبية طيلة العقود الماضية، إضافة إلى تفاقم مشكل التلوث البحري بفعل مخلفات سفن الصيد، وإعادة تدوير مياه مصانع الأسماك في المحيط ،وما يتراكم في قاع المحيط من شبكات ومعدات الصيد التقليدي، بما فيها أسطوانات استدراج الأخطبوط وغيرها من النفايات السائلة والصلبة.
ويشخص الشيخ ماء العينين ولد الحسن أمين عام رابطة المرابطين للصيد المهني أبرز مشاكل الصيادين، في غياب استراتيجية واضحة لقطاع الصيد منذ 30 سنة، وكذا وجود معايير واضحة لتصنيف الثروات البحرية، واستغلال البحارة من طرف المستثمرين وعلى سبيل المثال لا يتقاضى البحار أزيد من 200دولار، في حين يجلب للمستثمر حوالي مليون دولار خلال موسم الصيد.
ويرى ماء العينين أن الزبونية وغياب الشفافية في التسيير، وتحكم لوبيات الفساد والعزوف عن أي تشاور مع النقابات والشركاء ،عوامل فاقمت من الوضع المزري للقطاع.
بطالة سافرة
أما محمد أمبارك حيدن أمين الموانئ في النقابة الوطنية لتصنيف الأسماك، فيرى أن معاناة الصيادين تكمن في عدم تحديث لوائح العاطلين المتقدمين للعمل على مراكب الصيد ،حيث تمنح نسبة 60% من المكتتبين لرجال الأعمال، فيما تكتب النسبة الباقية عن طريق الزبونية والمحاباة والرشوة.
ويقدم محمد أمبارك معطيات كدليل على التوسع الفوضوي في إنشاء مركبات التبريد، ومعالجة الأسماك والتي يتجاوز عددها في نواذيبو 57 حاوية تبريد. وهناك أكثر من 53 مصنعا لدقيق الأسماك تلقي بمخلفاتها في مياه المحيط.
على شفا الكارثة
وفي لقاء مع محمد المختار محمد الامين الشريف رئيس النقابة الوطنية لمصنفي الأسماك، وصف واقع القطاع بالمزري والكارثي ويتجه إلى الهاوية ما لم تتغير السياسات التي تحكمه، وكمثال على حجم الاستنزاف يقول: إن نوعيات السمك القابلة للتصدير تراجعت في السنوات الأخيرة من 212 إلى 175 صنفا فقط.
ويرى أن العوامل البيئية وما سجل من ارتفاع في مستويات تلوث المحيط، وبدرجة تهدد الحياة البحرية ،وظاهرة النفوق الجماعي للأسماك في الشواطئ الموريتانية خير دليل على ذلك.
إلى جانب الطفرة في مصانع السمك وحاويات التبريد والتوجه للتصدير إلى دول الجوار الإفريقي ،مما أثر على كميات السمك التي كانت موجهة للسوق الداخلي ،كلها عوامل فاقمت من أزمة القطاع وزادت من معاناة الصيادين.
ولمواجهة هذا الواقع يقترح ولد محمد الأمين التوجه لتثمين الثروة السمكية من خلال خبرات وطنية، بدل ترك الأمر للأجانب والعمل على تنظيم اليد العاملة الأجنبية، بدل مزاحمتها للعمالة الوطنية خاصة في مجال التصنيف.
ويلح نقيب مصنفي السمك على فكرة التوجه لزيادة القيمة المضافة للثروة السمكية من خلال فتح مصانع خاصة في ظل جودة المنتج ووفرة اليد العاملة ،وذلك بدل الاعتماد على تصدير المنتج بشكل خام مما يفتح المجال لعمليات التحايل والتهرب الضريبي والرشوة على حد تعبيره.
لا أحد من الساكنة ينكر أن نواذيبو فقدت في السنوات الأخيرة بعضا من ألقها كعاصمة اقتصادية للبلاد في ظل تدهور مريع لقطاع الصيد، ترك بصماته على مختلف مرافق المدينة ،لكن يظل الصيادون التقليديون الأكثر تضررا من بين كل ساكنة المدينة، يعلق الكثيرون.