عن انواكشوط في المستقبل البعيييد
انواكشوط الخامس، المعروف اختصارا في الترقيم الدّولي للمدن ب NKC5، هو مدينة مبنية بالكامل في الهواء، مستندة على جزء يسير من اليابسة هو كل ماتبقى بعد غمْر أجزاء كبيرة من موريتانيا على إثر الذوبان الثالث لجليد القطبين سنة 2450 للميلاد، وهو الحدث البيئي الّذي غيّر خارطة موريتانيا والعالم أجمع، وقضى على ملايين البشر، وعلى إثره، تضاءلت مساحة اليابسة بشكل هائل، وبلغت أسعار المتر المربع منها مبالغ خيالية.
لاأحد في هذه المدينة المُتراقصة الألوان يهتم بشروق الشمس أو غروبها، فالمنازل المعلّقة في الفضاء على شكل حدائق خضراء، تُوفّر خدمة مُتابعة المشاهد الطبيعية كلّها من خلال الاشتراك في برنامج "طبيعة Nature" لدى المؤسسة الموريتانية لمحاكاة الطبيعة.
المدينة أيضا رغم حركيتها الهائلة فإنها تغطّ في هدوء كبير، مستفيدة من برنامج حجْب الأصوات WV الذي تُوفّره مجانا الهيئة الموريتانية لمحاربة التلوث الصوتي MOCNP.
في حي "البحر الهادئ" المطلّ على اليابسة، توجد قاعة فسيحة تُسمّى قاعة "بثّ الأشجان"، وهي قاعة يفِدُ إليها الشباب الموريتاني لبثّ أشجانه، حيث يختار كلّ واحد منهم من يلتقيه للحديث معه، بناء على معلوماته واهتماماته المتوفرة على المنصة الرّقمية share، والحقيقة أنّ قاعات بثّ الأشجان كانت في الأصل فكرة الفتاة مريم، تبنّاها عمدة بلدية "البحر الهادئ" السيد "شريف سوخونا" المنتخب حديثا، ومريم هي فتاة عشرينية، سريعة الحركة، كأنّها مكلّفة بالرّكض أبدَ الدّهر، ذات جمال مشتّت، فليس لأي عضو في جسمها النّحيف جمالا ذاتيا خاصّا به، إنما هو "جمال عام" يشعر المرء إزاءه بالارتياح، ولعل هذا، بالإضافة إلى لغتها الرّشيقة وأفكارها البديعة، ما جلب لها شعبية كبيرة لدى الشباب الموريتاني على منصة share الرقمية، وقد استفادت مريم من صدور دراسة علمية مثيرة عن معهد "جا" لدراسة نفسيات الكائنات الافتراضية في مدينة تمبدغة، بقيادة أخصائي علم النفس الشهير حبيب مولاي، وهي الدراسة التي أثارت جدلا واسعا، حيث قدّمت أرقاما مخيفة عن نسب الاكتئاب والقلق النفسي بين الشباب الموريتاني، الغارق في برامج محاكاة الواقع الطبيعي بشكل لا يتصور.
كانت مريم تُقدّم بلغتها الرّشيقة أمثلة مؤلمة لا يخلو بعضها من طرافة؛ حيث تذكُر الدراسة وجود ظاهرة نفسية جديدة لدى الشباب الموريتاني تُسمّى الرغبة الهائلة في الكلام، فقد حوّلت الحياة الرقمية المعاصرة وما تتيحه من وسائط تواصل رقمية متطورة الشباب الموريتاني إلى كائنات لا تعرف الكلام!
في قاعة بثّ الأشجان؛ جلس "محمّد"، وهو شاب طويل القامة مدوّر الوجه على درجة عالية من الأناقة واللّباقة، جلس في مقابل "عادل" على كراس خشبية، وعادل شاب ضخم البنية، يخيّل للناظر إليه أنه غارق في تناول الوجبات السّريعة وإدمان الأفلام خماسية الأبعاد، بدأ الإثنان حلقة بثّ الشجن، وهي لحظة إنسانية نادرة جدا في حياة الناس اليوم؛ تحدّثا عن مشاكلهما الذاتية، والتي تدور كلّها حول الفراغ الإنساني الهائل الذي يعيشانه، ووطأة الحياة المعاصرة وبؤس الرفاهية الرقمية التي أفرغت الحياة من كل المعاني الإنسانية النبيلة؛ كالشجاعة والكرم والذكاء والحب...، لكنّهما مع ذلك ناقشا بعض القضايا العامة التي تطرح نفسها بقوّة في الساحة الموريتانية، مثل أطروحة الدكتوراة التي ناقشها زميلهم محمد عالي من معهد الإمام ابن حزم للفقه المعاصر في مدينة أكجوجت، حول "مفهوم المكان في الفقه المعاصر" وهو النقاش الذي أثار جدلا واسعا في المُجمّع الفقهي الوطني، وذلك بعد فتوى مثيرة لأحد أعضائه، يتحدث فيها عن أنّ "أماكن العبادة الافتراضية" التي أصبح يرتادها كثير من شباب اليوم لأداء الصّلاة، وهي أماكن تُحاكي بدقة عالية المساجد التقليدية في كل شيء (مكان الصلاة، الجماعة، الإمام، الأذان...) أن لها نفس فضل المساجد التقليدية من حيث الأجر.
بعد حصّة بثّ الشّجن، ذهب محمّد وعادل إلى "متحف السّفر في الماضي البعيد" وهو أحد أهم إنجازات الرّئيس الموريتاني الحالي "خالد يوسوفا"؛ يُتيح المتحف السّفر عبر الماضي من خلال الغمْر immersion في واقع يُحاكي بدقّة هائلة لحظة الماضي المختارة.
اختار عادل أن يذهب إلى سنة 2057 بالتّحديد، ويتجوّل في أحياء "تنسويلم" قبل الحرب العرقية بثلاث سنوات، ويشرب الشّاي مع إحدى جدّاته البعيدة من خلال تقنية "اشرب ما تشاء" حيث يُمسك بكأس الشّراب وتتولّى برامج محاكاة الواقع التكفل بالطّعم والرائحة! كان مندهشا جدّا من حياة أجداده، ومن الفائض الهائل في الزّمان والمكان الذي كان يطبع حياتهم، كان كلّ شيء بالنسبة إليه أكبر من حجمه الطبيعي بكثير.
أمّا محمّد فقد اختار الدّخول إلى حساب جدّه البعيد، في برنامج يسمّى يومها "فيسبوك" ويتجول في أروقته، ليقرأ ما كان يُكتب يومها، كان يموت من الضحك وهو يرى الناس تتحدّث عن ما يسمّى انقطاع الكهرباء، وكيف أنّ حياتهم كانت مرتبطة كثيرا بهذا الحدث التافه، هو يعلم اليوم أن لا وجود لما يُسمّى الكهرباء، فمع برامج محاكاة الواقع، ومن خلال كتابة رقم بسيط، يضيء المكان بالدّرجة واللّون الضّوئي الذي يُريده صاحبه، أما شحن الهواتف، والذي كان فيما يبدو يُلحق ضررا كبيرا بروّاد "الفيسبوك" عند انقطاع الكهرباء في موريتانيا، فهو بحق أمر مثير للضحك، فقد اختفى الهاتف نهائيا وحلّت محلّه شرائح الكترونية متناهية الصّغر، يتمّ زرعها في الأصابع وتقوم مقام الهاتف، مربوطة بالويفي wifi الكوني المجاني المبثوث في الفضاء، كان في منتهى الاستغراب وهو يتأمل صورة شاركها جدّه على حسابه لهاتف من نوع "سامسونغ" مع الشّاحن الكهربائي، كانت فكرة الشاحن بالذات تثير لديه رغبة عارمة في الضحك، وكذلك حجم الهاتف الضخم مقارنة بأجهزة هذا الزمان، التي تحوّلت كلها إلى شرائح متناهية الدقة.
بعد انتهاء حصّة السّفر عبر الماضي، جلس محمد وعادل في قهوة المتحف، والمتحف يوفّر خدمة القهوة الواقعية؛ أي التي يجلس أصاحبها على كراسي وجها لوجه، ويأتيهم النّادل بالقهوة، وهي بطبيعة الحال غالية جدا؛ فكل خدمة يتم فيها الاقتراب من الحالة الواقعية الطبيعة تكون أغلى، جلسا ليستمتعا بشرب القهوة، في الطرف المقابل لهما تجلس فتاة ممتلئة الجسم -وهي حالة نادرة جدا لدى فتيات اليوم- مُحايدة الملامح، غير أنّ في عينيها بريقا مُبهرا، ما إن لمحها محمّد حتى وقع في أسر عينيها، وأحسّ بشعور داخلي دفين، وبرغبة هائلة في الحديث إليها، فقبل جلسة "بث الأشجان" هذه، لم يتحدّث مباشرة مع أحد منذ أشهر، كان عند الفتاة نفس الرغبة، حين تقابلت عيونهما انهمَرت بالبكاء، كان بكاء جميلا رغم كثافته، فكل شيء واقعي عند محمّد أصبح جميلا، حتى ولو كان بكاء! أخذت الفتاة تشكو غربتها ووحدتها، رغم أن لديها آلاف الصّديقات على منصة share، يتحدّثن معها يوميا، غير أنها كانت تفتّش عن الإنسان الواقعي، حدّثاها عن فكرة بث الأشجان، فاستحسنتها ووعدت بالمشاركة فيها، تم تبادل العناوين الرّقمية بسرعة هائلة، فقد كانت الفتاة مدعوة لمعرض صوّر منحوتة على الثلج، تحت عنوان "غرق بوتلميت" يتتبّع فيه رسّام موريتاني شاب اللّحظات الإنسانية الأخيرة والصّعبة لسكان بوتلميت بعد موجة ذوبان الجليد.
انقضى ذلك اليوم بطيئا على غير عادة الأيام في انواكشوط الخامس ، المدينة التي لا تنام ولا تستيقظ، لقد كان لتلك المحادثات والجلسات الواقعية أثرها الكبير على محمّد وعادل، أحسّا بسعادة غامرة.. وهكذا بعد أيام التهمتهُما فيها حركة المدينة المعاصرة الهائلة وأغرقتهما من جديد في برامج محاكاة الواقع البائسة، قرّرا توسيع التواصل مع شباب آخرين، لتأسيس تيار يدعو للعودة إلى حياة ماقبل الثورة التكنولوجية الرابعة، سميّاه تيار "المكان space"
بعد ذلك بفترة طويلة، كانت مريم تتحدّث في لقاء جماهيري، هو الأول من نوعه منذ مئتي سنة، حيث كانت أوّل مرة يجتمع فيها الناس على أرض واحدة وجها لوجه، كان حدثا رائعا لم يتمالك قادة تيار المكان، مريم وعادل ومحمد وكان ويوسف وركّي دموعهما وهم يرون كيف أثمرت أفكار تيار "المكان" واقتنعوا أن ثورة جديدة توشك أن تنتفض على برامج محاكاة الواقع التي أرهقت الإنسان، كان الشباب في الدّول الأخرى يتباشرون بهذا التيار، ففي أفريقيا الجديدة بدأ الحراك في سبع دول من أصل ثلاثة عشر دولة هي كل دوّل افريقيا الجديدة بعد ذوبان الجليد، غير أن حدثا في الشّرق هزّ منطقة "الخليج اليابس" سيغيّر مجرى الأحداث فيما يبدو بدرجة لا يمكن تصوّرها..
الساعة الثامنة مساء، في غرفة معلّقة بالطابق رقم 179 في حي "ولاتة" الاصطناعي، يجلس "يوسف" على كرسي أبيض ويقرأ في نسخة ورقية من ديوان المتنبي، لعلها تكون الكتاب الورقي الوحيد في موريتانيا كلها، يقرأ بصوت مرتفع، وهي عادة ورثها عن أجداده، فرغم أن المنصّات الرقمية الشِّعرية توفر الآن من خلال نظام خوارزمي عالي الدقة، خدمة مشاهدة الشاعر يقرأ قصائده تقريبا كما كان يومها، إلاّ أنّ يوسف كان يُفضّل أن يقرأ بصوت مرتفع في ديوان المتنبي الورقي، فقد أحبّ هذا الأمر بشكل لا يتصور، أخذ يوسف يصيح في غرفته بصوت مرتفع :
صَحِبَ النّاسُ قَبلَنا ذا الزّمَانَا :: وَعَنَاهُمْ مِن شأنِهِ مَا عَنَانَا
وَتَوَلّوْا بِغُصّةٍ كُلّهُمْ مِنْــهُ :: وَإنْ سَرّ بَعْضَهُمْ أحْيَانَا
رُبّمَا تُحسِنُ الصّنيعَ لَيَالِيــه ::ِ وَلَكِنْ تُكَدّرُ الإحْسَانَا...
ما إن انتهى من القصيدة، حتى بدأ الأذان الرّقمي الموحّد لصلاة العشاء يتردّد في الآفاق.
كانت وكالات الأنباء الرّقمية تتناقل أنباء اقتراب الموجة الثانية من إعصار "مشرق" القادم من "الخليج اليابس" من إفريقيا، كانت لحظة مفعمة بالخوف والقلق من المستقبل، لكن خفّف من ذلك أن الهيئة الإفريقية لرصد آثار التّغيرات المناخية قرّرت منذ أشهر تطوير نظام "تحييد" الأعاصير الذي شهد نجاحات كبيرة في آسيا الجديدة، وهو ما يُعطي الأمل بتخفيف أضرار الإعصار إلى درجة كبيرة.
في هذه اللحظة المزدحمة بالقلق تُشير الشّريحة الرّقمية ليوسف إلى وصول رسالة مصوّرة على درجة عالية من الأهمية، رسالة مشتركة من مريم ومحمد وعادل، ما إن بدأ يوسف مشاهدة مريم في الفيديو حتى شعر بحالة نفسية غريبة.. كانت زوجة يوسف تشاهد فيلما وثائقيا خماسي الأبعاد عن الحرب العرقية التي شهدتها موريتانيا قبل أكثر من خمسمائة سنة، والتي أدّت رغم فظاعتاها، إلى ميلاد مجتمع متصالح مع هُويّته الاجتماعية الموحّدة.
كانت مريم تتحدّث بحماس كبير عن النّجاح الباهر لتيار المكان، وقدرته في إقناع كثير من الشباب الإفريقي في الثورة على الحياة الرقمية البائسة ...
كانت تلك بداية ثورة ستغيّر وجه إفريقيا وربما العالم أجمع.