استقبل رئيس الحي وهو رجل طاعن في السن أفراد البعثة ووجد حرجا بالغا في مصافحة الفرنسي الوحيد ضمن البعثة ، غير أنه حرص فيما بعد على غسل يده سبع مرات والثامنة بالتراب كما حرص على ان يكون ذلك امام جمع من الناس
لم تمض ساعات حتى شاع في الحي وجواره خبر مهمة البعثة القادمة من العاصمة واتضح انها ليست معنية ب " لفتين " وإنما جاءت بهدف دراسة إمكانية فتح مدرسة في الحي ..
ومع أن الجميع تنفس الصعداء الا ان القلق الذي كان سائدا في الحي حلت محله حيرة بالغة وغضب مكتوم . .
وما كاد أعضاء البعثة يغادرون حتى تفجر نقاش صاخب حول مهمة البعثة..وقد استدعى الأمر أن يجتمع أصحاب الرأي في مسجد الحي بعد صلاة العصر لتدارس الأمر..كان ذاك الاجتماع مشهودا فقد بادر أحد أبرز وجوه القوم بتحذير الجميع من أن مهمة البعثة مهمة استعمارية مردفا بتهكم إنها تحاول تحقيق ما عجزت عنه فرنسا مرارا ، هذه المرة باستخدام أشخاص يحملون اسمائنا ويدينون بديننا لكن ولائهم للمستعمر ، أليس هؤلاء هم من صوتوا قبل 3 سنوات لبقاء البلاد ضمن محميات فرنسا ، الم يلق هؤلاء خطاب ما زعموا انه استقلال بلغة المستعمر ، لا جديد ، لا جديد نفس الجماعة ، ليؤازره آخر بالقول إن في ذلك استحسانا لعمل الكافر وهنا انبرى آخر ليسرد نص خليل في الردة والذي يبدو أنه يحفظه كما يحفظ أحدنا أسماء أولاده " الردة كفر المسلم بصريح أو لفظ يقتضيه ، أو فعل يتضمنه كإلقاء مصحف بقذر وشد زنار وسحر وقول بقدم العالم او بقائه او شك في ذلك او بتناسخ الأرواح أو في كل جنس نذير ...." ليستغل النص قائلا او ليس الزنار الخاص بالكفار ردة لأنه تشبه بهم والمدرسة في حقيقتها ليست الا تشبها آخر ( ترى كم يمثل التحامل في هذا المنطق وكم تمثل الحقيقة ) ويختم هؤلاء كلامهم بالرفض القاطع لمدارس فرنسا في لبوسها الجديد ..
غير أن هناك رأيا اقل حدة وأكثر تعقلا يرى أصحابه ان الأوضاع تغيرت مع استعادة البلاد لسيادتها فالمعلم في هذه المدارس مسلم والمدرس بفتح الدال لا يتضمن محرما وللسلطان في كل الأحوال حق الطاعة وتعلم لغة النصارى لم يكن ابدا من المحرمات مستشهدين بمأثورة " من تعلم لغة قوم امن مكرهم " ليحتد الطرف الآخر مذكرا بأن البعثة طلبت أيضا أن تكون البنات ضمن تلاميذ هذه المدرسة متجاهلة حرمة الاختلاط ووجوب ملازمة المرأة لبيتها..والله تعالى يقول " وقرن في بيوتكن " ليعترض ألطرف الآخر بأن الخطاب موجه لنساء النبي خاصة ليقاطعه الآخر بأن الأمر كله مشبوه فماذا ستدرس المدرسة افضل مما تدرسه الكتاتيب والمحاظر ، يقولون الحساب اليست لدينا حمالة الضرب ، أعطني اي عدد لاضربه لك في عدد آخر وأعطيك النتيجة فورا ، لكن الواقع ان ما يريدونه حقا هو إحلال لغتهم مكان لغتنا اوادراج عاداتهم مكان عاداتنا وهو ما لن يكون (مرة أخرى ترى ما هي نسبة التخلف والوعي في هذا المنطق ) ، في هذا الاثناء التحق بالجمع وجه بارز من وجوه الحي والذي قرر أن لا يحضر الاجتماع قبل أن يهيئ الحمير للرحيل عن بقعة تريد فرنسا ان تدنسها بكنيستها التي تسميها بالمدرسة ، ليستقبله الجميع بمناشدة حارة بأن يؤخر قراره بالرحيل حتى تتضح الصورة وينجلي الموقف وقد قبل أخيرا وهو يرتجف غضبا
موجها كلامه للجميع وبصوت عال " هذا هو آخر الزمان .. مدرسة للنصارى بين خيامنا تدرس فيها لغتهم ويختلط فيها الرجال بالنساء " كان الرجل في سورة غضب شديد وكانت عيناه تزدادان إحمرارا والزبد يتطاير من فمه بكل اتجاه ..غير انه كان في انفعاله المبالغ فيه يمثل اتجاها سائدا في الحي ( ترى إلى أي مدى يفتقد هذا الخطاب البصيرة والرؤية الموضوعية وكم يحمل في نفس الوقت من استشراف لمآلات التأسيس التربوي )
ظلل الشقاق أجواء الحي الذي لم يعرف في السابق انقساما تجاه مدارس فرنسا التي قاطعها بحزم.
اسدل الليل معطفه الأسود على الحي المنقسم على نفسه وظللت سحابة حزن مجالس القوم وهم يواجهون معضلة لم يعرفوا لها مثيلا من قبل
وفي الأخير توصل عقلاء الطرفين لطرح النازلة على علماء البلد في المنطقة لاستجلاء الحكم الشرعي في الأمر ولينطلق تشاور واسع حول " نازلة المدرسة الحكومية " والتي تمثل إشكالية تدريس لغة فرنسا لبها وجوهرها
يتواصل