الصبا رياح محببة عند العرب كثيرا ما وصفها بلغاؤهم وتغنى بها شعراؤهم، فهي كما وصفها ابن خلكان: إذا هبت على الأبدان نعمتها ولينتها، وهيجت الأشواق إلى الأوطان والأحباب.
وإن لها لخفة ورقة وطيبا، قال امرؤ القيس في معلقته:
إذا قامتا تضوع المسك منهما
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل.
وقال الشيخ سيد محمد بن الشيخ سيديا:
وما على عالي الذرا من نصب
في هبَّة الصَّبا ورمية الصَّبي .
وبلغ من شأنها عندهم أن حمَّلوها تبليغ التحايا، قال ابن زيدون:
ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا
من لو على البعد حيى كان يحيينا.
في الأمالي لأبي علي القالي: تزوج رجل من أهل تهامة امرأة من أهل نجد فأخرجها إِلَيها، فلما أصابها حرّها قَالَت: ما فعلت الصّبا؟ قَالَ: يحبسها عنك هذان الجبلان، فأنشدت الأبيات.
أيا جبلي نعمان بالله خليا نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها
أجد بردها أو تشف مني حرارة
على كبد لم يبق إلا صميمها
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت
على نفس مهموم تجلت همومها.
وفي الأغاني: أن قيس بن الملوح، خرج به أهله إلى وادي القرى ليمتاروا خوفا عليه من أن يضيع، فمرّوا بجبلي نعمان، فقال له بعض فتيان الحيّ: هذان جبلا نعمان، وقد كانت ليلى تنزل بهما! قال: فأيّ الرياح تأتي من ناحيتهما؟ فقالوا: الصبا. قال: فو الله لا أريم هذا الموضع حتى تهب الصبا! فأقام، ومضوا فامتاروا ثم أتوا عليه فأقاموا معه ثلاثة أيام حتى هبت الصبا، ثم انطلق وأنشأ يقول:
أيا جبلي نعمان بالله خليا
سبيل الصبا يخلص إلي نسيمها ..
وينسب لقيس قوله:
تمرّ الصّبا صفحا بساكن ذى الغضا
ويصدع قلبي أن يهبّ هبوبها
قريبة عهد بالحبيب وإنما
هوى كلّ نفس حيث كان حبيبها.
ولأهل المعرفة صَباهم وأشواقهم يقول شيخنا الشيخ علي الرضى بن محمد ناجي حفظه الله ورعاه:
وإن هبت صبا الأشواق وهنا
لها من كل ناحية هبوب
وقد نام الخلي فلا عذول
يلومك والرقيب هو الرقيب
سكرت بخمرة عذبت وطابت
ومهما زادك الساقي تطيب.
ولربما حبست "خالدات الصفا الصبا والدبورا"، قال العلامة امحمد بن الطلبه اليعقوبي الموسوي:
حي من ساحة المبيديع دورا
جنبة الريع قدْ دثرن دثورا
قد أضر البلى بها غير لوح
منْ رسوم تخالهن زبورا
وبقايا من ارْمِداتٍ تقَيها
خالدات الصفا الصبا والدبورا.. .
والصبا من الرياح الأربع المعروفة، قال المبرد في الكامل:
-فما بين مطلع سهيل إلى مطلع الفجر جنوب، وإنما تأتي الجنوب من قبل اليمن، قال جرير:
وحبذا نفحات من يمانية
تأتيك من جبل الريان أحيانا.
-وإذا هبت من تلقاء الفجر فهي الصبا تقابل القبلة، فالعرب تسميها القبول، قال الشاعر:
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني
نسيم الصبا من حيث يطّلع الفجر.
-وإذا أتت من قبل الشام فهي شمال، قال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام تضربنا
بحاصب كنديف القطن منثور
وهي تقابل الجنوب، ولذلك قال امرؤ القيس:
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمأل.
وإذا جاءت من دبر البيت الحرام فهي الدبور.
والشيء بالشيء يذكر فقد ذكّرني شاهد الصبا بقصة وردت في الوسيط للشيخ أحمد بن الأمين العلوي في ترجمة العلامة النحوي الحسن بن زين القناني، حيث قال عنه: "وكان حديد الذهن بعيد الغور، كان يوما مع جماعة من طلبة العلم، وبأيديهم الدماميني على التسهيل، فإذا هو يقول في باب الإضافة: قال ابن هشام: وقد سألني سائل من أين تهب الصبا، فأنشدته:
ألم تعلمي يا عمرك الله أنني
كريم على حين الكرام قليل
وإنيَ لا أخزى إذا قيل مملق
سخي وأخزى أن يقال بخيل.
ولم يبن استخراج الجواب من هذين البيتين، وفيه غموض. فلم يفهم الحاضرون مراد ابن هشام، فتفكر هو قليلا. وقال: والله لقد فهمت مراده، فقالوا له: بينه لنا، فقال لهم يشير إلى قول الشاعر:
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني
نسيم الصبا من حيث يَطّلعُ الفجر
فقوله: حين الكرام قليل. مماثل لقوله: من حيث يطلع الفجر، إذ كل من حين وحيث، ظرف مضاف على جملة".
والبيت كما في شواهد المغني لأبي صخر الهذلي من قصيدة وصفت بأنها من أرق الشعر، وبعد البيت:
وإني لتعروني لذكراك هزة
كما انتفض العصفور بلّله القطر
أما والذي أبكى وأضحك والذي
أمات وأحيا والذي أمره الأمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى
أليفين منها لا يروعهما الذعر.
وفي الاستيعاب لابن عبد البر أن لبيد بن ربيعة كان شريفا في الجاهلية والإسلام، وكان قد آلى أن لا تهب الصبا إلا نحر وأطعم، فهبت الصبا يوما وهو بالكوفة مقتر مملق، فعلم بذلك الوليد بن عقبة وكان أميرا عليها لعثمان، فخطب الناس، فقال: إنكم قد عرفتم نذر أبي عقيل، فأعينوا أخاكم. ثم نزل. فبعث إليه بمائة ناقة، وبعث إليه الناس، فقضى نذره، وكتب إليه الوليد:
أرى الجزار يشحذ شفرتيه
إذا هبت رياح أبي عقيل
أغر الوجه أبيض عامري
طويل الباع كالسيف الصقيل.. .
قال: فلما أتاه الشعر- وكان قد ترك قول الشعر- قال لابنته: أجيبيه، فقد رأيتني وما أعيا بجواب شاعر، فأنشأت تقول:
إذا هبت رياح أبي عقيل
دعونا عند هبتها الوليدا
أشم الأنف أصيد عبشميا
أعان على مروءته لبيدا
أبا وهب جزاك الله خيرا
نحرناها وأطعمنا الثريدا
فعد إن الكريم له معاد
وظني بابن أروى أن يعودا.
ومن خصائص الصبا أنها "تثير السحاب، والشمال تجمعه والجنوب تدرّه والدبور تفرقه"؛ كما ذكر القسطلاني عند تفسير قوله تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح نشرا}.
وفي مَرْيِ الصَّبا للسُّحب قال امرؤ القيس:
راح تمريه الصبا حتى غدا
فيه شؤبوب جنوب منفجر.
والبيت من رائعته في وصف المطر، قال أبو عمرو ابن العلاء: سألت ذا الرمة عن أي قول الشعراء الذين وصفوا الغيث أشعر؟ فقال: قول امرئ القيس:
ديمة هطلاء فيها وطف
طبق الأرض تحرّى وتدرّ.
تلك من خصال الصبا المحمودة؛ وخصائصها المشهودة؛ غير أن بيت القصيد؛ وفريدة عقد الجيد؛ في أمرها؛ المعلي من قدرها؛ والمشرف لها على غيرها؛ إنما هو في كون الله تعالى نصر بها نبيه صلى الله عليه وسلم، قال العلامة محمذن ولد علي الديماني الأبهمي في داليته:
أرى للصبا فضلا لنصرك بيّنا
على الجربيا والهيف والأزيب المندي.
وقال البوصيري في الهمزية:
ومسير الصبا بنصرك شهرا
فكأن الصبا لديك رخاء.
فقد أخرج البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ».
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: يشير صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى في قصة الأحزاب (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا).. قال ابن بطال: في هذا الحديث تفضيل بعض المخلوقات على بعض؛ وفيه إخبار المرء عن نفسه بما فضله الله به على سبيل التحدث بالنعمة لا على الفخر؛ وفيه الإخبار عن الأمم الماضية.
وقال ابن حجر: ومن لطيف المناسبة كون القبول نصرت أهل القبول وكون الدبور أهلكت أهل الإدبار.
وفي إرشاد الساري للقسطلاني: وفي التفسير أنها التي حملت ريح يوسف إلى يعقوب قبل البشير إليه. فإليها يستريح كل محزون. ونصرته عليه الصلاة والسلام بالصبا كانت يوم الأحزاب، وكانوا زهاء اثني عشر ألفا حين حاصروا المدينة، فأرسل الله عليهم ريح الصبا باردة، في ليلة شاتية، فسفت التراب في وجوههم، وأطفأت نيرانهم، وقلعت خيامهم، فانهزموا من غير قتال. ومع ذلك فلم يهلك منهم أحد، ولم يستأصلهم، لما علم الله من رأفة نبيه عليه الصلاة والسلام بقومه رجاء أن يسلموا.
وفي نظم الغزوات للعلامة أحمد البدوي المجلسي:
قالت جنوب للشمال انطلقي
ننصر خير مرسل في الخندق
فقالت الشمال إن الحرة
لم تسر بالليل فذاك عرة
فأرسل الله الصبا والملكه
فنصرا نبينا في المعركه.
قال الحافظ في الفتح: وروى أحمد من حديث أبي سعيد قال قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شيء تقوله قد بلغت القلوب الحناجر قال نعم "اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا" قال فضرب الله وجوه أعدائنا بالريح فهزمهم الله عز وجل بالريح، وروى ابن مردويه في التفسير من طريق أخرى عن ابن عباس أيضا قال: قالت الصبا للشمال اذهبي بنا ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن الحرائر لا تهب بالليل فغضب الله عليها فجعلها عقيما، وفي رواية له من هذا الوجه فكانت الريح التي نصر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبا.
وما أحسن قول المحب البرعي:
ما هب من جبلي نجد نسيم صبا
للغور إلا وأَشجاني وأَشجاها
وَلا سَرى البارق المكي مبتسما
إلا وأسهرني وهنا وأَسراها
تَبادَرَت من ربى نيابتي برع
كأن صوت رسول الله ناداها.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وأختم بخاتمة البوصيري في بردته:
وائذن لسحب صلاة منك دائمة
على النبي بمنهل ومنسجم
ما رنحت عذباتِ البان ريحُ صبا
وأطرب العيس حادي العيس بالنغم.
كتبه عبيد الله المفتقر إليه محمد بن امد بن أحمد بن المختار كان الله لهم وليا ونصيرا.
أمين الثقافة في المنتدى العالمي لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.