بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبتوفيقه تتحقق المقاصد والغايات ،وبفضله تتنزل الخيرات والرحمات، الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وأزكى صلوات الله وتسليماته على صفوة خلقه، وخاتم رسله، محمد بن عبد الله، الذي أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، ونعمة على المؤمنين ،
كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾
سورة : آل عمران الاية : (164)
ورضي الله عن آله وأصحابه الذين } ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ سورة : الأعراف الاية : (157)
ورضي الله عمن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فقد وفقني الله تعالى – منذ دخلت ميدان الدعوة والإفتاء والتعليم – بفضله ومنته، إلى الالتزام بالمنهج الوسطي المجدّد المتوازن، الذي يمثل منهج الأمة الوسط، كما سماها كتاب الله الكريم: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾
سورة : البقرة الآية : (143) بعيداً عن تحريف الغالين المتنطعين، وتزييف المتسيّبين المفرّطين. وهو منهج النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ،
الذي أشار إليه القرآن في قوله تعالى: {اهْدِنَا ال صِرَا طَ الْمُسْتقِيمَ صِرَاطَ الذِّينَ
أنْعمَتَ عَليْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَليْهِمْ وَلا الضَّالِينَ} [الفاتحة:6، 7]، وهو الدعاء القرآني الذي يجب على كل مسلم أن يكرره في صلواته كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل إذا اقتصر على الفرائض.
كما أشار إليه القرآن مرة أخرى، في حديثه تعالى عن الميزان العام الذي غرسه الله في الفطر والعقول، وقرنه تارة بإنزال الكتاب، وتارة برفع السماء. فقال
تعالى: {اللّهُ الذِّي أنْزَلَ الْكِتاَبَ بِالْحَقِ وَالْمِيزَانَ} [الشورى:17]، {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ألَّا تطَغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأقَيِمُوا الْوَزْنَ باِلْقِسْطِ وَلا تخُسِرُوا
الْمِيزَانَ} [الرحمن:7-9]. فهنا نبّه القرآن إلى المنهج الذي لا طغيان فيه ولا إخسار في الميزان. أي لا غُلو ولا تقصير، لا إفراط ولا تفريط. وهو المنهج الوسط الذي ندعو إليه.
وهو منهج تلاءم مع فطرتي وعقلي، وانسجم مع فهمي للإسلام من ينابيعه الصافية، كما تواءم مع منطق العصر، وحاجات الأمة فيه، وعلاقتها بغيرها من الأمم في عصر تقارب الناس فيه حتى غدا العالم قرية واحدة.
وقد نذرت لهذا المنهج نفسي وعمري، وأعطيته فكري ووجداني، ودعوت إليه بلساني وقلمي: إذا حاضرت أو خطبت، واذا فقّهت أو أفتيت، واذا علمت أو ر بيت، في كل آليات ا تّصالي بالناس: على المنبر في المسجد، أو في قاعة المحاضرة، أو في حلبة التأليف، أو على شاشات الفضائيات، أو على الأنترنت.
وقد كنت من عدة سنين كتبت مشروع اً تحت عنوان "الأمة الوسط" يُعنى بهذا المنهج، على أن تنشأ له مؤسسة تقوم عليه، قدمته لسمو الشيخة موزة بنت ناصر المسند حرم سمو أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة حفظهما الله، بينت فيه مدى الحاجة إلى هذا المنهج، ولماذا طلبتُ من قطر أن تتبنّاه؟ واخترت الشيخة موزة بالذات لما أعلم من شجاعتها في تبنّي المشروعات الكبيرة، وقدرتها على التنفيذ. وقد ساعدتني من قبل في مشروع "إسلام أون لاين نت" في الفترة الحرجة في بداية تأسيسه، ولا غرو أن تتبنى هذا المشروع.
وبعد مشاورات معها، انتهينا إلى أ ن من الخير البدء بمشروع كلية الدارسات الإسلامية، التي طالبتني بوضع فلسفتها، وبيان أهدافها واتجاهها، وتأسيس لجنة عليا، للتخطيط لها، والإشراف عليها، وأكدت لي أن من خلال هذه الكلية يمكن أن يقوم مشروعك الطموح، باعتباره جزء اً فعّالاً من مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع.
والحمد لله، قامت الكلية المنشودة، بعد دراسات واجتماعات، وتحضيرات، استمرت فترة غير قصيرة، قامت بها اللجنة الاستشارية العليا، التي أتشرف برئاستها1، وأثبتت الكلية وجودها على الساحة بحمد الله.
وفي العام الماضي (2008م.) في احتفال المؤسسة بتخريج أول دفعة لها، أمرت الشيخة موزة بالإعلان عن "مركز القرضاوي للوسطية الإسلامية والتجديد" فأعلن ذلك عميد كلية الدراسات الإسلامية الأستاذ الدكتور حاتم القرنشاوي حفظه الله، وسط ترحيب الحضور، وعلى رأسهم سمو الأمير الشيخ حمد وحرمه.
ومنذ ذلك الوقت بدأ العمل الجاد لإخراج المركز إلى عالم التنفيذ، وعُيّن له مدير كفء ذو خبرة يعتد بها، هو الأخ الأستاذ الدكتور محمد خليفة حسن من مصر، وعُيّن معه الشاب الباحث المتفتح النابه الدكتور محمد المختار الشنقيطي من موريتانيا، ثم لحق بهما العالم الباحث الداعية النابه الشيخ مجد مكي من سورية، ثم عُيّن اثنان آخران، من شباب العلماء الواعين.
هذا وقد كنت كتبت كلمات في مفهوم الوسطية ومعالمها المميّزة لمنهجها، الذي أصبح اليوم يمثّل تيارا قوياً يسنده جمهور الأمة، ويتبنى جملة من المفاهيم والمبادئ والقيم الأساسية، التي تقدّم الإسلام الحيّ المتوازن المنشود في خطوط عريضة، ولكنها واضحة التقاسيم، بيّنة الملامح.
ذلك أن من أشدّ الأمور خطرا: ترك المصطلحات الكبيرة مثل الوسطية أو التجديد دون توضيح للمقصود، ودون شرح لمعناها وماهيتها، شرحاً يلقي الضوء الكاشف على مُقوّماتها وخصائصها، وأهدافها ومناهجها، و يُزيح الغبار عن حقائقها، ويردّ على أباطيل خصومها، ويفنّد شبهات معارضيها.
وبذلك يتضح صراط المؤمنين، وتستبين سبيل المجرمين كذلك، كما قال
تعالى: {وَكَذلِكَ نفَصِلُ الْآياتِ وَلِتسْتبَيِنَ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
وبعبارة أخرى: يتبين لنا صراط الله المستقيم، وتتبين السبل العُوج الأخرى عن
يمينه وعن شماله، كما قال تعالى: {وَأنَّ هَذاَ صِرَاطِي مُسْتقِيما فاَتبِّعوُه ُ وَلا تتَبِّعوُا
السُّبلَ فَتفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبيِلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تتَقَّوُنَ} [الأنعام:153] وكما جاء في حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: "هذا سبيل الله"، ثم خط خطوط اً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: "هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم تلا: {وَأنَّ هَذاَ صِرَاطِي مُسْتقِيما فاَتبِّعوُهُ وَلا تتَبِّعوُا السُّبلَ فَتفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبيِلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلكُّمْ تتَقَّوُنَ}
[الأنعام:153].
وقد نشر مركز الوسطية بالكويت هذه الكلمات في طبعتها الأولى، وقدم لها الأمين العام للمركز في ذلك الوقت أخونا العالم الداعية المعروف الدكتور عصام البشير حفظه الله.
والآن أعيد النظر فيها مرة أخرى، – وخصوصاً بعد أن غدا مركز القرضاوي يحمل عنوان الوسطية والتجديد – لأضيف إليها معالم جديدة، رأيتها غايةً في الأهمية، ودمجتُ بعض المعالم في بعض، وقمتُ بما يسر الله من إضافة وتحسين ومزيد من الشرح النسبي، مستفيدا مما كتبته من قديم في عدد من كتبي، إلى أن يُهيئ الله لي شرحها بإفاضة وتفصيل. كما أني رتبتها ترتيباً جديداً أقرب إلى المنطق من ترتيبها القديم، لتظهر على الصورة المُثلى، ما أمكن ذلك. والمؤمن يجتهد أن يرتقي أبداً من حسن إلى أحسن، ومن أحسن إلى الأحسن، كما هو توجيه القرآن، الذي علمنا أن الله خلق السموات والأرض، وخلق الموت والحياة ليبلونا: أينا أحسن عملا! وبهذا أصبحت كتاب اً جديد اً، بعنوان جديد، أضعاف الأول في حجمه، يقوم بنشره مركز القرضاوي للوسطية الإسلامية والتجديد بالدوحة، لتكون المنشور الثاني للمركز بعد نشر كتابي الكبير "فقه الجهاد".
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذه الدراسة، وبهذا المركز، وأن يجعله منارة هدى للحق، ومنبر دعوة إلى الخير، وقلعة دفاع عن الدين، ولسان صدق لرسالة الوسطية الإسلامية، والتجديد الإسلامي، على ضوء كتاب الله الكريم، وسنة رسوله ذي الخلق
العظيم {وَمَنْ يَعْتصِمْ بِاللّه ِ فقَدْ هُدِيَ إلِى صِرَاطٍ مُسْتقِيمٍ} [آل عمران:101].
كما أسأله سبحانه أن يجعل ما يقدمه هذا المركز من خير للأمة في ميزان دولة قطر وأميرها وحرمه، بارك الله في جهودهما، وجزاهما الله خيراً عن الإسلام ودعوته وأمته. إنه سميع مجيب.
الفقير إلى عفو ربه يوسف القرضاوي
الدوحة في: شوال 1430هـ. أكتوبر 2009م