تمهيد صلتي بالوسطية
تركيزي على الوسطية من قديم:
لقد أكرمني الله تعالى بتبنّي تيار الوسطية، ومنهج الوسطية من قديم، ولم يكن ذلك اعتباطاً، ولا تقليداً لأحد، أو اتباعاً لهوى، ولكن لما قام عندي من الدلائل الناصعة، والبراهين القاطعة، على أ ن هذا المنهج هو الذي يُعبّر عن حقيقة الإسلام. لا أعني إسلام بلد من البلدان، ولا فرقة من الفرق، ولا مذهبا من المذاهب، ولا جماعة من الجماعات، ولا عصرا من العصور. بل عنيتُ به "الإسلام الأول" قبل أن تشوبه الشوائب، وتلحق به الزوائد والمبتدعات، وتكدّر صفاءه الخلافات المُفرّقة للأمة، ويُصيبه رذاذٌ من نحل الأمم التي دخلت فيه، والتصقت به أفكار دخيلة عليه، وثقافات غريبة عنه. وقبل أن تصنّف أمّته إلى فرق وجماعات شتى، تنتسب إلى زيد أو عمرو من الناس، فحسبنا أنها تنتمي إلى القرآن الحكيم، والى الرسول الكريم.
الإسلام الأول:
أعني بهذا الإسلام الأول: إسلام القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، الإسلام الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما أوحي إليه من ربه، وبما بينه بقوله وفعله وتقريره وسيرته. إسلام أصحاب رسول الله، الذين تتلمذوا على يديه، وشاهدوا أسباب نزول القرآن، وورود الأحاديث، وكان لديهم من صفاء الفطرة، وصدق الإيمان، وتذوُّق اللغة: ما أعانهم على حُسن فهم هذا الدين، الذي أخذوه بقوة من مُعلمه الأول، وطبقوه على حياتهم تطبيقاً دقيقاً.
هؤلاء الصحابة، الذين أثنى عليهم القرآن في أواخر سورة الأنفال ، وفي أواسط سورة الفتح1، وآخرها2، وفي سورة التوبة حين قال تعالى: {وَالسَّابقِوُنَ الْأوَّلوُنَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأنْصَارِ وَالذِّينَ اتبَّعوُهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه} [التوبة:100]. فشمل الثناء من اتبعهم بإحسان، وشملهم قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه ُ}.
كما أثنى عليهم رسوله في أحاديث مستفيضة: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"3.
هذا الإسلام النقيُّ من الإضافات والمُبتدعات الذي أتم الله به النعمة على
الأمة، وامتن عليها بإكماله، فقال: {الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتَمَمْتُ عَليْكُمْ نِعْمَتِي.
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِين ا} [المائدة:3].
كتاب "الحلال والحرام في الإسلام" ومنهجي فيه:
لقد تبنيتُ منهج الوسطية منذ أكثر من نصدف قرن، ولعل أول كتاب لدي في هذا المجال هو كتاب "الحلال والحرام في الإسلام" ، الذي وضح فيه هذا المنهج بجلاء في مقدمة طبعته الأولى التي ظهرت سنة 1960م، وكان مما قلت فيها:
"رأيت معظم الباحثين العصريين في الإسلام والمتحدّثين عنه يكادون ينقسمون إلى فريقين:
فريق خطف أبصارهم بريق المدنية الغربية، وراعهم هذا الصنم الكبير، فتعبدوا له، وقدموا إليه القرابين، ووقفوا أمامه خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة، هؤلاء الذين اتخذوا مبادئ الغرب وتقاليده قضية مُسلمة، لا تعارض ولا تناقش، فإن وافقها الإسلام في شيء هللوا وكبروا، وإن عارضها في شيء وقفوا يحاولون التوفيق والتقريب، أو الاعتذار والتبرير، أو التأويل والتحريف، كأن الإسلام مفروض عليه أن يخضع لمدنية الغرب وفلسفته وتقاليده. ذلك ما نلمسه في حديثهم عما حرم الإسلام من مثل: التماثيل، واليانصيب، والفوائد الربوية، والخلوة بالأجنبية، وتمرُّد المرأة على أنوثتها، وتحلي الرجل بالذهب والحرير ... إلى آخر ما نعرف.














