تأكيدي على منهج الوسطية منذ طلوع فجر الصحوة الإسلامية المعاصرة:
هذا ما ذكرته من قديم في مقدمة الطبعة الأولى من كتابي "الحلال والحرام". وزاد تأكيدي لهذا المنهج وتركيزي عليه ما لمسته من الضرورة إليه، منذ طلع فجدر الصحوة الإسلامية المعاصرة منذ أوائل السبعينيات من القرن العشرين، أي منذ ما يقرب من نصف قرن من الزمان. وما شاهدته من خلال رحلاتي في أنحاء العالم الإسلامي ولقاء الأقليات الإسلامية، في الشرق والغرب، من ضياع الأمة بين الغلاة والمتطرفين وخصومهم من المتحّللين والمتسيّبين.
وكان من دلائل هذا الاتجاه: ما لاحظه بعضهم في عناوين عدد من كتبي:
أن فيها كلمة "بين" مثل: "الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد" "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف" "الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم" "الفتوى بين الانضباط والتسيب" "الاجتهاد بين الانضباط والانفارط" "ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق" "ثقافتنا العربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة" ، وغيرها. وكلها تدل على أن هناك موقفاً وسطاً بين طرفين.
حديثي في عدد من كتبي عن ملامح منهج الوسطية:
وقد تحدثت في عدد من كتبي عن ملامح هذا المنهج، أو عن بعضها بإيجاز، كما في كتبي: "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف"، و"الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي"، و"أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة"، و"الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد" و"خطابنا الإسلامي في عصر العولمة"، وغيرها. ولكن لم أفصّلها في كتاب مستقل. وحسبي هنا أن أذكر نموذجا لاهتمامي بالوسطية ما جاء في كتابي "أولويات الحركة الإسلامية" عن الفكر الذي ننشده للحركة الإسلامية في العالم، فهو فكر علمي سلفي تجديدي، وسطي، وما قلته آنذاك في تجلية معاني هذه الوسطية هذه الفق ارت: ومن معالم الفكر الذي ننشده: أنه فكري وسطي الوجهة والنزعة، فهو فكر تتجلى فيه النظرة الوسطية المعتدلة المتكاملة للناس وللحياة، النظرة التي تمثل المنهج الوسط للأمة الوسط، بعيداً عن الغلو والتقصير. فهو وسط بين دعاة المذهبية الضيقة، ودعاة اللامذهبية المفرطة. وسط بين أتباع التصوف وان انحرف وابتدع، وأعداء التصوف وإن التزم واتبع.
وسط بين دعاة الانفتاح على العالم بلا ضوابط، ودعاة الانغلاق على النفس بلا مبرر.
وسط بين المحكّمين للعقل وان خالف النص القاطع، والمغيّبين للعقل ولو في فهم النص.
وسط بين المقدّسين للتراث، وان بدا فيه قصور البشر، والمُلغين للتراث، وان تجلت فيه روائع الهداية.
وسط بين المستغرقين في السياسة على حساب التربية، والمهملين للسياسة كلية بدعوى التربية.
وسط بين المستعجلين لقطف الثمرة قبل أوانها، والغافلين عنها حتى تسقط في أيدي غيرهم بعد نضجها.
وسط بين المستغرقين في الحاضر الغائبين عن المستقبل، والمبالغين في التنبؤ بالمستقبل كأنه كتاب يقرؤونه.
وسط بين المقدّسين للأشكال التنظيمية كأنها أوثان تُعبد، والمتحللين من أي عمل منظم كأنهم حبات عقد منفرط.
وسط بين الغلاة في إطاعة الفرد للشيخ والقائد، كأنه الميت بين يدي الغاسل، والمسرفين في تحرره كأنه ليس عضوًا في جماعة.
وسط بين الدعاة إلى العالمية دون رعاية للظروف والملابسات المحلية، والدعاة إلى الإقليمية الضيقة دون أدنى ارتباط بالحركة العالمية.
وسط بين المسرفين في التفاؤل، متجاهلين العوائق والمخاطر، والمسرفين في التشاؤم، فلا يرو ن إلا الظلام، ولا يرقبون للظلام فجًرا.
وسط بين المغالين في التحريم كأنه لا يوجد في الدنيا شيء حلال، والمبالغين في التحليل كأنه لا يوجد في الدين شيء حرام.
هذه هي الوسطية التي يتبناها هذا الفكر، وان كان الغالب على مجتمعاتنا اليوم السقوط بين طرفي الإفراط والتفريط، إلا ممن ر حم ربك، وقليل ما هم.