"البنك المركزي في إطار النظام التشاركي".. من مقال علمي منشور.. د. رقية أحمد منيه

.

البنك المركزي مؤسسة مالية نقدية، تقوم بدور الوصاية على النظام النقدي في أي بلد، ويؤدي المصرف المركزي وظائف أساسية؛ جوهرها إصدار النقود والرقابة على تداولها، والمحافظة على قيمتها وقوة الإلزام المعبرة عنها، والرقابة على المصارف والائتمان، إضافة إلى تخويله القيام بإدارة السياسة النقدية وتنفيذها في معظم الدول، وعليه تقع مسؤولية حماية السيادتين؛ النقدية والمالية للدولة، ولتأدية وظيفته الأساسية، يستخدم أدوات محددة لتنفيذ سياسته المرسومة سابقا وفق أهداف معينة، وقد تختلف السياسة النقدية باختلاف القواعد التي تبنى عليها، وكذلك يختلف البنك المركزي في النظام الرأسمالي، عن البنك المركزي من منظور تشاركي، ويكمن أصل التباين في اختلاف القواعد المنظمة لعمل كل منهما، مع الاتفاق في الأدوار الاقتصادية ذات البعد الإداري البحت غير المنضبط بمنهج معين، كما يتفقان في أساس حماية العملة الوطنية وضمان انتقال الكتلة النقدية داخل الدائرة الاقتصادية بسلاسة وشفافية وأمان نقدي.

ونظرا لأهمية الكتابة حول مكانة البنك المركزي في المنظومة المالية التشاركية، وما نصبو إليه من توجه الدول الإسلامية نحو نظام مالي لا يقوم على مبدإ الفائدة الربوية المحرمة شرعا، رأيت من باب نشر الفائدة العلمية المحمودة شرعا، توضيح دور المصرف المركزي من منظور متطابق مع مقتضيات الشريعة الإسلامية؛ لأن الخروج من الأزمات الاقتصادية والمالية والأخلاقية، يحتاج إلى عودة إلى المنبع الصافي لقيمنا الحضارية، ولا يكون شيء من ذلك بغير العمل وفق رؤية تدبيرية للأموال تراعي أوامر الشارع في التداول والاستثمار؛ من مراعاة للمصلحة العامة والخاصة ودرء للمفاسد الدينية والاجتماعية والاقتصادية، ولجم أهل الإفساد عن العبث بمقدرات الدولة، وتقعيد القواعد الضامنة لسلامة المعاملات، وتوفير أمان واستقرار ماليين للمؤسسات النقدية، وعدم تعريض صورة رمز السيادة النقدية للإهتزاز أمام الجهات المالية الدولية، وضمان سرية المعلومات، وتفعيل العقوبات في حالة تضييع الأمانة أو التفريط في المهام المسندة.. 

ثم إن تفعيل الحكامة المصرفية الجيدة، وتمكين الرقابة بشقيها الشرعي والمالي، لا غنى عنهما لأي منظومة نقدية استشرافية، بسبب انتقال النظام الاقتصادي العالمي إلى العمل وفق مخرجات مؤتمر "بريتن وودز" والتخلي عن ربط العملات المحلية بالمعدن "النفيس"، الأمر الذي أدى إلى تذبذب القيم تبعا لعدم استقرار المؤشرات، وظهور هرم اقتصادي مقلوب لا يقوم على أصول حقيقية، يعتمد على قاعدة هشة من الأرقام والفقاعات المالية والعقود المستقبلية القابلة للتعرض لأعلى درجات المخاطر والغرر الفاحش، حيث وصل إلى ذروة الضعف إبان الأزمة المالية العالمية، وفي حالة الصدمة وتأثرا بآثارها الكارثية على الاقتصاد العالمي، بدأ البحث الحثيث عن نظرة اقتصادية بديلة تحيد مساوئ النظام الرأسمالي المتوحش القائم على الأنانية المفرطة والعبثية في تنظيم حقوق الإصدار والتداول، وقد وجدت النظرة الإسلامية  لحقيقة تدبير الموارد المالية اهتماما كبيرا من الغير للأسف، وكان الأولى تطبيقها من قبل من تدخل في صميم اعتقاده.

إن العمل المؤسسي لهيئات الإصدار والرقابة المتوافقة مع مقتضيات الشريعة الإسلامية، يقدم رؤية اقتصادية متكاملة ومتوازنة، تركز على قدرة نواة النظام المصرفي على العمل باستقلالية تامة وشفافية وأمان.
 
أولا : تعريف البنك المركزي من منظور تشاركي

البنك المركزي يمثل نواة النظام المصرفي، وعليه تقع مسؤولية الوصاية على المؤسسات المصرفية، ويقوم بوظيفة الرقابة على الائتمان، ويحدد قيمة العملة الوطنية بناء على مؤشرات معينة، وتوكل إليه مهمة المشاركة في رسم السياسات النقدية والمالية للدولة وتنفيذها، ويحتكر خاصية سك النقود وإصدارها، ويناط به حماية احتياطيات البلد من المعدن النفيس والعملات الأجنبية ذات صفة التداول الدولي؛ والخصائص السابقة لا تختلف بين النظامين الاقتصاديين الرأسمالي والإسلامي، ولكن التباين يكمن في أدوات السياسة النقدية في كل نظام، ولتقريب المسألة للأذهان أبدأ بتعريف البنك المركزي من منظور النظام التشاركي؛ 
أ‌-    عرف البنك المركزي انطلاقا من مبادئ الاقتصاد الإسلامي بأنه: «المؤسسة المالية، والنقدية العامة، التي تعنى بكفاءة واستقرار وتطوير القطاعات البنكية، والنقدية، والمالية، والحكومية والخاصة، وذلك باعتماده على الأسس والمبادئ الشرعية للمجتمع الإسلامي، وسعيا لتحقيق أهداف استقراره وتنميته وتطويره».[1]
ب‌-                    وعرف أيضا بأنه: « مؤسسة حكومية مستقلة، تكون مسؤولة عن تحقيق الأهداف الاقتصادية، والاجتماعية للاقتصاد الإسلامي، في الحقل النقدي والمصرفي».[2]
وتأسيسا على ما سبق يمكن تعريف البنك المركزي في النظام التشاركي بأنه: "مؤسسة مالية ونقدية، ذات طابع عام، تقوم بوظائف إصدار النقود، وتحديد قيمتها، ومراقبة تداول الكتلة النقدية، وتوجيه الائتمان، وتنمية الاقتصاد الوطني، وفقا لقواعد ومبادئ ومقاصد الشريعة، وعملا بخصائص النظام التشاركي".
 

ثانيا : القواعد التي يقوم عليها المصرف المركزي في إطار النظام التشاركي

تأتي أهمية المصرف المركزي الذي يعمل في إطار نظام المشاركة في الاقتصاد الإسلامي، انطلاقا من عدة قواعد أقامتها الشريعة الإسلامية للمعاملات المالية منها القواعد العامة والخاصة.
قال الله تعالى:﴿ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾.[3]
وقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.[4]
وقال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾.[5]
ومن القواعد العامة التي يقوم عليها البنك المركزي في النظام التشاركي ما يلي؛
1.    ربط التنمية الاقتصادية بالتنمية الاجتماعية:
يهدف النظام الاقتصادي الإسلامي في المقام الأول إلى تنمية المجتمع، وربط الصلة بين العقيدة والقيم والتنظيم الاقتصادي للمجتمع، والسعي فيما يعود على المجتمع بالخير والرفاهية وبما يجسد ويدعم المبادئ الإسلامية، ولهذا فرض الزكاة لتحقيق التضامن بين أبناء المجتمع في أعلى مستوياته.[6]
2.   الجمع بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة:
ففي النظام التشاركي  يكون لكل من المصلحة العامة والمصلحة الخاصة دور في تحقيق المجتمع الآمن والمستقر اقتصاديا، وإذا حصل تعارض بين المصلحتين ترجح المصلحة العامة وإن كان فيها بعض المضرة لقليل من الأفراد.
3.   المشاركة في الربح والخسارة:
تتوزع نتائج العمل في ظل النظام الاقتصادي الإسلامي ربحا أو خسارة على المجتمع كله، ولا تنفرد بها فئة معينة مما يخفف حدة الأزمات الاقتصادية ويمنع تركيز الثروة في أيدي القلة.
4.   النهي عن كل ما يضر ويؤذي:
الأصل في الشرع منع الضرر؛ سواء أتعلق بالأفراد أو المجتمع، فكل وسيلة تؤدي إلى الإضرار بالنظام العام أو الإضرار بالنفس أو المال ممنوعة، وذلك من رحمة الشارع الحكيم بخلقه.
قال الله تعالى:﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾.[7]
5.   منع الربا وأكل أموال الناس بالباطل
النظام الاقتصادي الإسلامي، يرتكز على أساس التعامل بالعدل والمساواة وعدم الظلم، ورأس العدل تجنب التعامل بالربا أخذا وعطاء.
قال الله تعالى:﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾.[8]
وقوله الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.[9] 
والربا  عين الظلم وهو أكل أموال الناس بالباطل، وفيه المضرة الحقة على الفرد والأسرة والمجتمع والإنسانية، وإلى جانب هذا يجب تجنب الأخرى التي يظلم فيها الإنسان مثل: الغبن والغش والتدليس والمماطلة، فهذا كله من أكل أموال الناس بالباطل، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾.[10]
6.   التخطيط الاستراتيجي:
التخطيط الاستراتيجي هو وسيلة الأنظمة النقدية لتحديد طرق استخدام الموارد، وكيفية مواجهة الحاجات المتزايدة والطارئة، لتنفيذ السياسات الاقتصادية للدول. 
ويقوم التخطيط الاستراتيجي في النظام التشاركي على ما ورد على لسان نبي الله يوسف عليه السلام، تعبيرا لرؤيا ملك مصر؛
قال الله سبحانه وتعالى:﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ْ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ  ْ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾.[11]
7.   مبدأ العدل
العدل أساس الملك، وركن بناء الدول وآلية التوزيع العادل للثروة، ويحتاج النظام النقدي التشاركي للعدل في الأموال، وآليات سك النقود، ووسائل تقويم العملات، وسبل تطوير القدرة الشرائية للأوراق النقدية.
والأصل في وجوب اعتماد مبدأ العدل، قول الله تبارك وتعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾.[12]
8.   إعادة توزيع الدخل(نظام الزكاة)
إن المؤسسات المركزية الربوية لا تلقي بالا لفريضة الزكاة، ولا تعمل على إخراج الأموال الزكوية من الأصول المتداولة في السوق النقدية؛ لكونها مؤسسات تعمل وفق نظام الفائدة الربوية، أما المصرف المركزي الذي يطبق نظام المشاركة؛ فإنه يتعامل بنظام الزكاة.
ويوجه البنوك الأولية التشاركية نحو تبويب أنظمتها المحاسبية على إخراج الزكاة، ويراقب القوائم المالية لهذه المؤسسات، ويعتمد معايير شرعية تقوم عليها عملية المراجعة الشرعية الخارجية، تقوية لقدرة النظام المالي على الامتثال لأوامر الله تعالى في الجانب المالي.
والزكاة مصدر للبركة والنماء والطهر من حيث معناها اللغوي ومقصدها الشرعي، وهي ثاني أركان الإسلام بل إنها شقيقة عماد الدين الصلاة تؤخذ من أموال الأغنياء فترد على  الفقراء تطهر المال وتزكي النفس فالمال عزيز وعندما تجود به تسمو وترتفع وتشرف، قال الله تعالى:﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾.[13]
 وقد توعد الله سبحانه من لا يدفع الزكاة بشديد العذاب﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ْ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾.[14]
والزكاة هي كذلك حق للمجتمع في عنق الأفراد الأغنياء، فأداؤها يحقق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع المسلم ويضمن الكفاف للفقراء، وهي أيضا ضمانة لتحقيق مقصد الشريعة في تداول الأموال وعدم تركزها في يد قلة من الناس، ويعتبر تحديد المستفيدين منها حصرا؛ نوعا من التوزيع العادل للثروة، وزرعا للمحبة بين الفقراء والأغنياء، فالفقير إذا كان ينتفع من زيادة مال الغني تمنى لماله النماء، فبزيادته تزيد نسبة انتفاعه منه، ويزول عنه حسده، ويتأسس نظام لغرس المحبة بين أفراد المجتمع المسلم، ويتجلى النظام التشاركي بركائزه الأساسية اقتصاديا واجتماعيا.
9.   تنمية الأموال:
تنمية الأموال مقصد شرعي، والمحافظة عليها من الكليات، وآلية حفظ المال استثماره، وتقليبه ودورانه بالتجارات ونحوها.
ودلت على ذلك الكثير من الأدلة الشرعية، منها:
حدثني يحيى، عن مالك، أنه بلغه؛ أن عمر بن الخطاب قال:{ اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الَيتَامَى لاَ تَأْكُلْهَا الزَّكَاةُ}[15]، وحدثني، عن مالك أنه بلغه:{ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تُعْطِي أَمْوَالَ الَيتَامَى الَّذِينَ فِي حِجْرِهَا مَن يَتَّجِرُ لَهُمْ فِيهَا}، وحدثني، عن مالك، عن يحيى بن سعيد:{ أَنَّهُ اشْتَرَى لِبَنِي أَخِيهِ يَتَامَى فِي حِجْرِهِ مَالاً فَبِيعَ ذَلِكَ المَالُ بَعْدُ بِمَالٍ كَثِيرٍ}.
 ولا ينسى أحد أن أموال الدولة الإسلامية هي أموال الجميع: الكبير والصغير، والضعيف والقوي، والأرملة والفقير واليتيم، ومسئولية المحافظة عليها كبيرة، واستخدامها بوسائل ربوية محرمة يمثل تضييعا لها.
10.                المحافظة على البيئة:
إن العلاقة بين البيئة والنظام المصرفي والمالي؛ هي إدارته لهذه الموارد الطبيعية، وتسيير عوائدها المادية؛ لذلك تنبغي مراعاة أوامر الخالق في تدبيرها، والمحافظة عليها من الاستغلال المفرط، وعدم استخدام عوائدها المادية في الربا، فخالق الكون وفق سنن إلهية، تجب طاعته في خلقه بما أمر؛
«...والذي يجب عليه أن لا ينساه-أي الإنسان_ ويتذكره دائما، وله أن ينسى بعد ذلك من الأشياء، ما شاء، وهذا الذي يجب عليه أن يتذكره دائما ولا ينساه هو أن هذه الأرض التي يسكنها، ويمارس فيها نشاطه، ليست ملكا له، بل هي ملك لمالكها الحقيقي وهو الله تعالى خالق السماوات والأرض، والإنسان، وخالق كل شيء، وهذا الخالق الأعظم وضع للعيش فيها نواميس وقوانين، وقواعد وضوابط، التقيد بها، والوقوف عند حدودها والانضباط لها واجب على كل من يعيش على ظهرها، إن أراد النجاة لنفسه وللبيئة، وللناس وللأرض ومن عليها، ومن أهم تلك الضوابط، الإمساك عن إتيان أي سلوك من شأنه أن يفضي إلى الفساد والإفساد فيها، فإن هو نسي ذلك وأعرض، وطغى في البلاد وتجبر، فقد آذن نفسه بحرب من الله لا تبقي ولا تذر».[16]
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.[17]
11.                الالتزام بالأوامر الشرعية:
إن إنشاء مؤسسة مالية مركزية وفق أحكام الشريعة الإسلامية، جزء من التزامنا بأوامر الشرع الحنيف، قال الله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[18] فلا مخالفة أبين من التعامل بالربا المحرم الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكله وموكله وكاتبه وشاهديه.
12.                تحقيق مبدأ الاستخلاف في الأموال:
قال الله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾.[19]
الاستخلاف على الأموال مسؤوليته مضاعفة، فيسأل من أين اكتسب المال ثم يسأل ثانية فيم أنفقه.[20]؛« فالإنسان هو الجدير بخلافة الأرض لما ميزه على سائر خلقه من مميزات تجعله أهلا لهذا الاستخلاف، وهو الذي سيدير ثروات الله التي بثها في ملكوته».
والمؤسسات المالية العامة والخاصة في عصرنا أشخاص اعتبارية لا خطاب شرعي موجه إليها، ولكن المكلفين بإدارتها وتسييرها لا يخرجون عن التكليف الشرعي.
 

ثالثا: وظائف البنك المركزي في إطار النظام التشاركي

يقوم البنك المركزي في إطار النظام التشاركي بنفس الوظائف التي يختص بها في النظام الرأسمالي مع تحييد نسبة الفائدة في الإقراض والاقتراض، ويستبدل معدل الفائدة العام بنسبة الأرباح على عمليات التمويل ذات البعد الاستثماري، الأمر الذي يخفف العبء المادي على الاقتصاديات المحلية، ويحقق قيمة مضافة، ويخفض المديونية على الموازنة العامة، ويوجه وظائف البنك المركزي نحو كفاءة أعلى.
ويقوم البنك المركزي في إطار النظام التشاركي بالوظائف التالية؛
1-           مصرف الدولة والمسئول عن رقابة الكتلة النقدية:
الإسلام يلزم الحاكم بتوفير حد الكفاية لكل من لا يملكه من رعيته، وإن لم تكفي موارد الدولة لتوفير هذا الحد جاز له أن يأخذ من أموال الأغنياء ما يكفي لتوفير حد الكفاية لمن هم دونه.[21]
ولغرض تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، يقيم النظام المالي الإسلامي؛ رقابة محكمة على عرض النقود؛ للتأكد من أن نموها لا يتعدى نمو الإنتاج الحقيقي، ولا يعني هذا أن عرض النقود هو المتغير الوحيد الذي يؤثر على الأسعار، بل غاية ما يعنيه أن عرض النقود له أهميته، وأن عدم تنظيمه تنظيما سليما يعني أن إحدى الأدوات المهمة لتحقيق الأهداف الاقتصادية في الإسلام قد سلبت فعاليتها».[22]
ويتولى المصرف المركزي الإسلامي عملية إصدار السندات وأسهم المشاركة والمضاربة (الإسلامية) نيابة عن الدولة، حيث يقوم بعملية تنظيم الإصدار والاكتتاب وحسابات الإيرادات، لتمويل عجز الدولة الحالي أو المستقبلي.[23]
2-           مصرف الإصدار والمسئول عن تحديد قيمة النقد ومنع الغش فيه
يشكل تثبيت القيمة الفعلية للنقود وظيفة مهمة من وظائف المصرف المركزي، وهي تحقيق سلامة الاقتصاد الإسلامي ونمائه الثابت والمستديم وتأمين العدالة الاقتصادية والاجتماعية.[24]
ومن وظائف الدولة أيضا في مجال مراقبة إصدار النقود عدم السماح بسك نقود مغشوشة؛
حينما عمدت الشريعة الإسلامية إلى منع الأفراد من إصدار وسك النقود كانت تهدف من خلال ذلك إلى مزيد من الاستقرار النقدي والاقتصادي في المجتمع، وحينما اتجهت إلى منع الغش في إصدار وسك النقود، إنما كانت تهدف إلى ربط الإصدار بدقة بحجم المعدن النفيس المتاح، وإلى أن يبقى عند كل فرد من أفراد المجتمع الثقة بالنقود، لأنه من المعلوم أنه كلما زاد الغش في النقود فقدت النقود الثقة في نفوس الناس، وعندئذ ترتفع الأسعار، وتقل الإنتاجية، ويأكل الأغنياء الأموال من الفقراء بالباطل؛[25] ولذلك أوكل الشارع عملية مراقبة تداول النقود للدولة حفظا للحقوق ومراعاة لأحوال الناس، واعتبروا من مهام المحتسب في الأسواق بيان مثل هذه النقود المغشوشة، وعدم السماح بانتشارها.
3-            الرقابة على الائتمان
إن ثقافة الدين تكون بتوجيه المدين؛ لئلا يستدين إلا لضرورة، وألا يأخذ أموال الناس دون حق وأن يعيدها لأصحابها دون مماطلة أو تأخير؛ خاصة إن كان مليئا، وتكون بتوجيه الدائن ليتصف بخلق رفيع، وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم على من مات وعليه دين؛ فكان يرفض صلى الله عليه وسلم الصلاة على جنازة مدين حتى يكفله غيره، وصارت السياسة بعد؛ بأن الدين يعان عليه من بيت مال المسلمين، ويضاف لذلك أن الدين يقضى من سهم الغارمين من الزكاة؛ حيث يشترك المجتمع المدني في حل هذه القضية، وحتى لا تضيع الحقوق، ويمنع الناس عن فعل الخير، فتتعطل المصالح، وكل ذلك مؤداه خفض المخاطر الائتمانية في المجتمع، وتشجيع على حركة المال وتداوله.[26]

 

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.