عجزالإنسان عن إنشاء نظام متوازن:
وهذا التوازن العادل في الحقيقة أكبر من أن يقدر عليه الإنسان؛ بعقله المحدود، وعلمه القاصر، فضلاً عن تأثيرميوله وأهوائه، ونزعاته الشخصية، والأُسرية والحزبية، والإقليمية والعنصرية، وغلبتها عليه من حيث يشعرأو لا يشعر. ولهذا لا يخلو منهج أو نظام يضعه بشر - فرد أو جماعة - من الإفراط أو التفريط، كما يدل على ذلك استقراء الواقع وقراءة التاريخ.
إن القادر على إعطاء كل شيء في الوجود - مادياً كان أو معنوياً- حقه بحساب وميزان، هو الله؛ الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأحاط بكل شيء خبرًا، وأحصى كل شيء عدداً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً. ولا عجب أن ندرى هذا التوازن الدقيق في خلق الله، وفي أمر الله جميعاً، فهو صاحب الخلق والأمر، فظاهرة التوازن، تبدو فيما أمرالله به وشرعه من الهُدى ودين الحق، أي: في رسالة الإسلام ومنهجه للحياة، كما تبدو في هذا الكون الذي أبدعته يد الله فأتقنت فيه كل شيء. ْ
ظاهرة التوازن في الكون كله:
ننظر في هذا العالم من حولنا من أصغر ما نعرفه في الكون وهو الذرّة، إلى أكبر ما نعرفه، وهو المجرّة، فنجد كل شيء فيه بمقدار وميزان، لا يتعدى مداره، ولا يجاوز مقداره، ولا يخبط خبط عشواء، بل هو كما قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فقَدرَّهُ تقَدِيرا} [الفرقان:2] {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدهَ بمِقْداَرٍ} [الرعدد:8] فنجد الليل والنهار، والظلام والنور، والحرارة والبرودة، والماء واليابس، والغازات المختلفة، والأفلاك الدوارة، والكواكب السيارة، والجمادات والنباتات، والحيوان والإنسان، والزواحف والطيوروالحشرات، والأحياء المائية، وغيرها، كلها تسير بقدروميزان وحساب، لا يطغى شيءٌ منها على مقابله، ولا يخرج عن حدّه المُقدر له . وكذلك الشمس والقمر والنجوم والمجموعات الكونية في فضاء الله الفسيح، إن كلاً منها يسبح في مداره، ويدور في فلكه، دون أن يصدم غيره، أو يخرج عن دائرته. وصدق الله العظيم إذ يقول: {إنِّا كُلَّ شَيْءٍ خَلقنَاهُ بقِدر} [القمر:49]. {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تفَاَوُتٍ} [الملك:3] {الشَّمْسُ وَالْقمَرُ بِحُسْباَنٍ} [الرحمن:5] {لا الشَّمْسُ ينَبَغِي لَهَا أنْ تدْرِكَ الْقمَرَ وَلا الليّْلُ سَابقِ النهَّارِ وَكُلٌّ فِي فلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يدس:40].
الوسطية الخصيصة البارزة لهذه الأمة:
والإسلام يريد من الأمة المسلمة: أن تعكس ظاهرة التوازن الكونية في حياتها وفكرها وسلوكها، فتتميز بذلك عن سائر الأمم. وإلى هذه الخصيصة البارزة يشير قوله تعالى مخاطباً أمة الإسلام:{وَكَذلِكَ جَعلَنَاكُمْ أمَّة وَسَطا لِتكَونوُوا شُهَداَءَ عَلَى الناَّسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَليْكُمْ شَهِيدا} [البقرة:143].
ووسطية الأمة الإسلامية إنما هي مُستمدة من وسطية دينها ورسالتها، أو وسطية منهجها ونظامها، فهو منهج وسط لأمة وسط. منهج الاعتدال والتوازن الذي سلم – كما ذكرنا – من الإفراط والتفريط، أو من الغلو والتقصير، في عقائده وأحكامه، في شعائره وشرائعه، في قيمه وأخلاقه، في مفاهيمه ومعاييره، في آدابه وتقاليده، في مشاعره وعواطفه، في روابطه وعلاقاته.