ولقد كان من حكمة الله تعالى أن اختار الوسطية شعاراً مميزا لهذه الأمة التي هي آخر الأمم، ولهذه الرسالة التي ختم بها الرسالات الإلهية، وبعث بها خاتم أنبيائه، رسولاً للناس جميعًا، ورحمة للعالمين.
الوسطية أليق بالرسالة الخالدة:
فقد يجوز في رسالة مرحلية محدودة الزمان والإطار: أن تعالج التطرف في قضية ما بتطرف مضاد، فإذا كان هناك مبالغة في الدعوة إلى الواقعية قوّمت بمبالغة مقابلة في الدعوة إلى المثالية، واذا كان هناك غُلو في النزعة المادية، رُد عليها بغلو معاكس في النزعة إلى الر وحية، كما أرينا ذلك في الديانة المسيحية وموقفها من النزعة المادية الواقعية عند اليهود والرومان، فإذا أد ت الدعوة المرحلية دورها الموقوت، وحدت من الغُلوّ – ولو بغلوّ مثله – كان لا بد من العودة إلى الحد الوسط، وإلى الصراط السوي، فتعتدل كفتا الميزان. وهذا ما جاءت به رسالة الإسلام بوصفها رسالة عالمية خالدة. إذ ليس بعد محمد رسول ولا نبي، ولا بعد القرآن كتاب سماوي، ولا بعد الإسلام دين أو شريعة إلهية، ولا بعد أمّدة الإسلام أمّة أخرى تحمدل رسالة ربانية للناس.
دلالة الوسطية على معاني أخرى:
على أن في الوسطية معاني ودلالات أخرى، يلحظها أولو العلم والبصيرة، تميّز منهج الإسلام، ورسالة الإسلام ،وأمّة الإسلام، وتجعلها أهلاً للسيادة والخلود.
أ _ الوسطية تعني العدل:
فمن معاني الوسطية التي وُصفت بها هذه الأمة في الآية الكريمة، ورُتبت عليها شهادتها على البشرية كلها: العدل، الذي هو ضرورة لقبول شهادة الشاهد، فما لم يكدن عدلاً، فإن شهادته مرفوضة مردودة، أما الشاهد العدل، والحكم العدل فهو المرضي بين الناس كافة.
وتفسير الوسط في الآية بالعدل ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: فقد روى الإمام أحمد والبخاري عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسرالوسط هنا بالعدل، والعدل والتوسط والتوازن عبارات متقاربة المعنى، فالعدل في الحقيقة توسط بين الطرفين المتنازعين، أو الأطراف المتنازعة بدون ميدل أو تحيز إلى أحدهما أو أحدها. وهو بعبارة أخرى: موازنة بين هذه الأطراف بحيث يعطى كل منها حقه دون بخس ولا جورعليه. ولا محاباة له، ومن ثم قال زهير في المدح:
همُ وسطْ يرضىْ الأنامُ بحكمهم إذا نزلتْ إحدى اللياليْ بمُعظَمِ.
يصفهم بالعدل والقسط وعدم التحيُّز.
وقال المفسرون في قوله تعالى: {قاَلَ أوْسَطُهُمْ ألَمْ أقَلُ لكُّـــــمْ لَوْلَا تسَبِحُونَ} [القلم:28]، أي: أعدلهم . يؤكد هذا الإمام الرازي في تفسيره بقوله: إن أعدل بقاع الشيء وسطه، لأن حكمه مع سائر أطرافه على سواء، وعلى اعتدال.