نسائم الإشراق، الحلقة رقم (1740) 23 نوفمبر2021م، 17 ربيع الثاني 1443هـ، فقه الوسطية الإسلامية والتجديد، معالم ومنارات، الشيخ يوسف القرضاوي، الحلقة رقم (14)

6. وهو وسط بين الذين يؤمنون بالعقل وحده مصدراً لمعرفة حقائق الوجود، واثبات القديم، ومعايير الحق والخير، وبين الذين لا يؤمنون إلا بالوحي والإلهام، أو النص الديني، ولا يعترفون للعقل بدور في نفي أو إثبات. فالإسلام يؤمن بالعقل، ويدعوه للنظر والتفكر، وينكر عليه الجمود والتقليد، ويخاطبه بالأوامر والنواهي، ويكلفه فهمها والاستنباط منها، ويعتمد عليه في إثبات أعظم حقيقتين في الوجود، وهما: وجود الله تعالى، وصدق دعوى النبوة، ولكنه يؤمن بالوحي مكمّلاً  للعقل ومُعيناً له، فيما تضل فيه العقول وتختلف، وما تغلب عليه الأهواء، وهادياً له إلى ما ليس من اختصاصه ولا هو في مقدوره، من الغيبيات والسمعيات وطرائق التعبد لله، بما يحبه ويرضاه.

ثانيا: وسطية الإسلام في العبادات والشعائر:

والإسلام وسط في عباداته، وشعائره: بين الأديان والنحل التي ألغت الجانب "الرباني" - جانب العبادة والتنسك والتأله- من  فلسفتها وواجباتها، كالبوذية التي اقتصرت فروضها على الجانب الأخلاقي الإنساني وحده حتى قالوا: إن بوذا سئل عن حكمة الإله، وأمر الإله فقال: أنا لا أعرف كثيرا من حكمة الإله، ولكن أعرف كثيراً عن بؤس الإنسان! ... وبين الأديان والنحل التي طلبت من صفوة

أتباعها التفرُّغ للعبادة والانقطاع عن الحياة والإنتاج، كالرهبانية النصرانية، التي حرمت على أتباعها الزواج، والتمتُّع بزينة الله التي أخرج لعباده، والطيّبات من الرزق.

فالإسلام يطلب من المسلم أداء شعائر محدودة في اليوم كالصلوات الخمس، أو في الأسبوع كصلاة الجمعة، أو في السنة كالصوم، أو في العمر مرة كالحج، فلا يُرهقه من أمره عُسرا بالتكاليف الشاقة المجهدة، ولا يدعه فارغًا من الصلة بالله، بل يجعله سائر يومه على موعد مع ربه، ليظل دائماً موصولا بالله، غير مقطوع عن رضاه، ثم يطلقه بعد ذلك ساعياً منتجاً، يمشي في مناكب الأرض، ويأكل من رزق الله،  زارعاً، أو صانعاً، أو محترفاً، أو تاجراً أو عاملا في أي مجال، حتى تلفظ الحياة آخر أنفاسها. وحسبنا هذا الحديث النبوي: "إن قامت الساعة  وفي يد أحدكم فسيلة (نخلة صغير) فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها" . فلم يغرسها ولن يأكل منها أحد؟ للإشارة إلى التعبّد بالعمل لذات العمل.

ولعل أوضح دليل نذكره هنا: الآيات الآمرة بصلاة الجمعة: {يَا أيَهَّا الذِينَ آمَنوُا إِذاَ نوُدِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجمعة فاَسَعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّه وَذرُوا الْبيَعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتمْ تعْلمُونَ فَإِذاَ قضِيتِ الصَّلاةُ فاَنْتشِرُوا فِي الْأرْضِ وَابْتغَوُا مِنْ فضل الله  الهَّ  واذكروا الله كَثيِرا  لَعلَكُّمْ تفُلِحُونَ} [الجمعة: 9،10]. فهذا هو شأن المسلم مع الدين والحياة، حتى في يوم الجمعة: بيع وعمل للدنيا قبل الصلاة، ثم سعيٌ  إلى ذكر الله  وإلى الصلاة، وتركٌ  للبيع والشراء وما أشبهه من مشاغل الحياة، ثم انتشار في الأرض وابتغاء الرزق من جديد بعد انقضاء الصلاة، مع عدم الغفلة عن ذكر  الله كثير اً في كل حال، فهو أساس الفلاح والنجاح.