نسائم الإشراق، الحلقة رقم (1811) 04 فبراير2022م، 2رجب الفرد 1443هـ، فقه الوسطية الإسلامية والتجديد، معالم ومنارات، الشيخ يوسف القرضاوي، الحلقة رقم (86)

 

وينبغي لصاحب الدعوة البصير، الفاقه لدينه، والعارف لعصره، والعالم بأحوال أمته: أن يكون وسطا بين الاتجاهات الفكرية السائدة في الأمة، ولا يدع نفسه أسيرا لبعضها دون بعض، بحيث يتفرد به أحدها، ويحبسه في قفصه، ويبعده عن غيره، فيصبح متعصّبا منغلقا على مذهب معيّن، أو طائفة معيّنة، أو جماعة خاصة، في العقيدة أو الفكر أو السياسة، أو السلوك، مخاصما ما عداها، يوسعه ذمّاً وطعناً، دون أن يعطي نفسه فرصة للتأمّل والدراسة والمقارنة، ثم يحكم بين المتنازعين أو المختلفين بالمعروف.

ففي كثير من القضايا: لا تملك مدرسة واحدة، ولا فئة واحدة كل الحق، بل كثيرا ما يكون بعض قولها حقا، كما يكون بعض قول خصومها حقّا، والواجب على العالم المنصف الذي ينشد الحق: أن يجمع حق الطوائف بعضه إلى بعض، ليتكون منه القول الصواب، أو على الأقل: الأقرب إلى الحق.

وهذا ما ذكره الإمام ابن القيم في كثير من المسائل التي تختلف فيها الفرق الإسلامية من المعتزلة والمرجئة والجبرية والأشعرية وغيرهم في قضايا الجبر والاختيار، أو ما يسمى أفعال العباد، والإيمان بالقضاء والقدر، والإيمان وعلاقته بالعمل، وبماذا يدخل المرء في الإسلام؟ وماذا يخرجه منه؟ إلى غير ذلك من القضايا التي اختلف فيها أهل القبلة، وكفر بعضهم بعضا من أجلها.

قال ابن القيم في كتابه "شفاء العليل":

"وأرباب هذه المذاهب مع كل طائفة منهم خطأ وصواب، وبعضهم أقرب إلى الصواب، وبعضهم أقرب إلى الخطأ، وأدلة كل منهم وحجته، إنما تنهض على بطلان خطأ الطائفة الأخرى، لا على إبطال ما أصابوا فيه. فكل دليل صحيح للجبرية، إنما يدلّ على إثبات قدرة الرب تعالى ومشيئته، وأنه لا خالق غيره، وأنه على كل شيء قدير، لا يستثنى من هذا العموم فرد واحد من أفراد الممكنات، وهذا حق، ولكن ليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون العبد قادراً مريد اً فاعلاً بمشيئته وقدرته، وأنه الفاعل حقيقة، وأفعاله قائمة به، وأنها فعل له، لا لله، وأنها قائمة به، لا بالله.